«حماس» تقضي على أسطورة حزب الله.. قراءة في تداعيات «طوفان الأقصى»
فى السابع من أكتوبر القادم سيكون قد مر عام على عملية طوفان الأقصى، وهى العملية التى تمثل منعطفاً إقليمياً مهماً فى المنطقة، لما شهده الإقليم من تداعيات ترتبت عليها. يمكن أن توصف «طوفان الأقصى» بأنها عملية «حماس» التى قضت على أسطورة حزب الله.
أولاً: بدأت تتجلى تداعيات تلك العملية على الشرق الأوسط، فالإقليم وحدة جغرافية متماسكة، ما يحدث فى داخل أى من وحداته -دوله- يؤثر على أمن واستقرار الدول الأخرى، كان آخر تلك التداعيات الهجمات الإسرائيلية على لبنان مؤخراً، وما صاحبها من اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله. كان الرابط الرئيسى بين تلك التطورات هو إيران، فبينما عملت إيران على إعلان ما يسمى «وحدة الساحات» التى تعنى إشعال بؤر التوتر حول الجبهات الإسرائيلية، من الشمال حيث سوريا ولبنان ومن ناحية العراق واليمن، على اعتبار أن هذا ما قد يوقف الحرب الإسرائيلية على غزة، فإن ما حدث أن «وحدة الساحات» لم تكن بالدرجة الكافية لردع إسرائيل، بل عملت تلك الجماعات المسلحة فى العراق وسوريا ولبنان ضمن قواعد الاشتباك المتفق عليها مع إسرائيل، وهى تلك التى لا تسبب خسائر فى صفوف المدنيين الإسرائيليين، ومن ثم لا ترتب رداً انتقامياً إسرائيلياً.
ثانيا: تزامناً مع ذلك التصعيد الإقليمى الذى شهد حرب إسرائيل على غزة الأقرب للإبادة الجماعية، فضلاً عن هجمات الحوثيين فى البحر الأحمر والتى أثرت على الوضع الاقتصادى للدول المشاطئة له، ومع دخول حزب الله اللبنانى فى مواجهات مع إسرائيل، نجد أن إيران انتهجت مساراً يُعلى الدبلوماسية من قبَلها بالتزامن مع التصعيد الميدانى الإقليمى، فجاءت برئيس جديد إصلاحى ومعه فريق من الدبلوماسيين ذوى الخبرة فى التعامل مع الغرب مثل جواد ظريف وعباس عراقجى. وبالرغم من إعلان «عراقجى»، فى بداية توليه وزارة الخارجية، استمرار سياسة إيران القائمة على التضافر بين الميدان والدبلوماسية، فإن إيران لم تُعلِ إلا الدبلوماسية من جانبها، والميدان من جانب الجماعات المسلحة فى المنطقة.
ثالثاً: جاء رئيس إيرانى من التيار الإصلاحى يتبنى خطاباً تعاونياً ومنفتحاً على الغرب، وهو ما تجلى فى خطابه بالجمعية العامة للأمم المتحدة، داعياً إلى الحوار وإعادة التفاوض بشأن الملف النووى، وقد سبق أن أعلن «عراقجى» أن أولوية الحكومة هى رفع العقوبات عن إيران والتفاوض بشأن الملف النووى، لأن من المفترض أن يتم إعادة فرض العقوبات الأممية على إيران مرة أخرى فى أكتوبر 2025 إذا أقرت الدول الموقعة معها على الاتفاق النووى لعام 2015 أن إيران لم تمتثل لالتزاماتها بالاتفاق، وهو ما حدث بالفعل، فإيران ضاعفت من مخزون اليورانيوم المخصب لديها، كما عملت على تخصيبب اليورانيوم لدرجة 60%.
رابعاً: بمقارنة خطاب الرئيس الإيرانى السابق إبراهيم رئيسى فى الجمعية العامة للأمم المتحدة وخطاب الرئيس الإيرانى الحالى مسعود بزشكيان نجد أن خطاب «رئيسى» كان قائماً على التعارف وحُسن الجوار، وهو ما ترجمه فى دبلوماسية حُسن الجوار فيما بعد مع الدول المجاورة له، وظل يرفع ذات الشعار لحين رحيله المفاجئ، وبالمثل فإن حكومة بزشكيان، التى لديها ضوء أخضر من المرشد الإيرانى لإعادة فتح الملف النووى، ستعمل خلال الفترة المقبلة على تحقيق الهدف، وهو رفع العقوبات، سواء وصل للبيت الأبيض كامالا هاريس أو دونالد ترامب.
خامساً: فى ظل سياق إقليمى مشتعل دفع طهران للمجىء برئيس إصلاحى، وفى ظل الحاجة الداخلية فى إيران لرفع العقوبات، عملت إيران على اتباع سياسة اللافعل فى مواجهة التوترات فى المنطقة وتمادى إسرائيل فى استهداف أراضيها، سواء بتوجيه هجمات على أهداف حيوية أو اغتيال كثير من كبار قادة الحرس الثورى فى إيران، واستهداف القنصلية الإيرانية فى طهران، شنَّت بموجبه إيران هجوماً محسوباً على إسرائيل، لكنها لم تتمكن من إلحاق أضرار جسيمة، واغتيال رئيس المكتب السياسى لحركة حماس، مروراً باستهداف كبار قادة حزب الله حتى اغتيال زعيم الحزب حسن نصرالله.
سادساً: تعرض حزب الله لهجمات إسرائيلية خرجت عن قواعد الاشتباك المتفق عليها ضمنياً بين حزب الله وإسرائيل، والتى شهدت عمليات نوعية أمنية واستخباراتية استهدفت القضاء على بنية الحزب التنظيمية والعسكرية، فكان استهداف قادته وعملية البيجر (أجهزة النداء)، مع استمرار إسرائيل فى استهداف قادة الحزب، وصولاً للهدف الأكبر وهو اغتيال نصرالله، الحليف الأقوى والأقرب إقليمياً لإيران.
سابعاً: لا يمكن فصل عملية اغتيال نصرالله عن التصعيد الإقليمى الذى بدأ من غزة من جهة، والتهدئة والتراجع الإيرانى أمام إسرائيل من جهة أخرى. ففى ذات الوقت الذى كانت تستهدف فيه إسرائيل الضاحية الجنوبية فى لبنان بضربات شديدة ونوعية تستهدف قادة الحزب وجميع وحداته، كان الرئيس الإيرانى يُعلى من خطاب الدبلوماسية، وأعلن بعد عودته من نيويورك الاتفاق مع الأوروبيين على إعادة التفاوض بشأن الاتفاق النووى، وكان واضحاً أن هناك إحجاماً من إيران للدفاع بشكل مباشر عن حزب الله.
لذا من المرجَّح أن تقييد إيران رد حزب الله على إسرائيل تجنباً لفتح حرب موسعة من قبَل إسرائيل قد تدفع الحزب إلى مواجهة أكبر ومن ورائه إيران، هو ما جعل إسرائيل تتمادى وتوسع من بنك أهدافها فى لبنان، وصولاً لاغتيال زعيم الحزب. لقد أدرك صانع القرار الإيرانى أن أى رد سيستهدف قلب إيران.
ثامناً: يمكن القول إنه فى الوقت الذى خفت فيه مبدأ «وحدة الساحات» أعلت إسرائيل من المبدأ وحاولت أن تثبت لإيران قدرتها على الوصول لأهدافها فى داخل إيران وخارجها وتحقيق هجمات فى أكثر من ساحة، لذا كانت إسرائيل هى التى طبَّقت ميدانياً «وحدة الساحات»، وكانت عملية «حماس» هى التى قضت على حزب الله، الأداة الرئيسية فى الاستراتيجية الإقليمية لإيران.
تاسعاً: يُعد حزب الله مكوناً رئيسياً فى قوة الردع الإيرانية فى الإقليم وفى مواجهة إسرائيل، لذا كان تصعيد الحزب دائماً فى مواجهة إسرائيل، حينما يشتد الضغط الدولى على إيران، وفى ظل تفاهمات أمريكية إيرانية ممتدة منذ أكثر من عام لم يكن مطلوباً من الحزب التصعيد فى مواجهة إسرائيل للدرجة التى تفتح صراعاً مباشراً بينهما، أو يدفع إسرائيل لتوجيه ضربة للمنشآت النووية الإيرانية، خاصة مع إثبات إسرائيل فى الفترة الأخيرة اختراقها إيران أمنياً واستخباراتياً.
عاشراً: هل يمكن القول إن إيران تخلت عن حزب الله؟ وما هو مستقبل العلاقة بين إيران وميليشياتها فى المنطقة؟
من المؤكد أن الضربات الإسرائيلية لإيران وحزب الله كرّست ضعف قوة الردع الإيرانية ومصداقيتها، وأن أى تدخل عسكرى فى هذا الصراع سيحمل مخاطرة كبيرة على إيران فى الداخل، لكن من جهة أخرى فإن هذا التراخى الإيرانى والتموضع الجديد يتماشى مع استراتيجية إيران الداخلية، لا سيما أن بقاء النظام الإيرانى هو أولويتها المطلقة.
لقد قال بزشكيان إن «حزب الله لا يمكنه الوقوف بمفرده»، وفى الوقت نفسه، أصر وزير الخارجية عباس عراقجى على أن حزب الله قادر على الدفاع عن البلاد «ضد أى عدوان»، فى حين تعهد بأن الجمهورية الإسلامية «لن تبقى غير مبالية»، جاء ذلك فى الوقت الذى ظهرت فيه تقارير تفيد بأن إيران رفضت طلباً مزعوماً من حزب الله بمهاجمة إسرائيل.
وفى اليوم التالى، حذر عراقجى قائلاً: «لا تُقللوا أبداً من قدرة حزب الله على الدفاع عن لبنان ضد أى عدوان، فهو أكثر من قادر على تسوية قواعد النظام الإسرائيلى بالأرض».
كان من الواضح أن إسرائيل غيَّرت قواعد الاشتباك ودخلت مرحلة جديدة من الحرب، ولكن لم يدرك ذلك حزب الله الذى كان مقيداً بالأجندة الإيرانية. لقد ارتدّت تداعيات «طوفان الأقصى» على محور المقاومة، فقد استغلت إسرائيل الفرصة من أجل إضعاف ما يسمى «محور المقاومة» فى ساحة تلو الأخرى، خاصة فى ظل تآكل قدرات الردع الإيرانية، فبعد حزب الله تتجه إسرائيل لمهاجمة أهداف فى الحديدة اليمنية عازمة على إضعاف قدرات الحوثى، ومن بعدها ستتجه إلى الميليشيات الموجودة فى سوريا، إن إسرائيل تتحرك مدعومة أمريكياً وغربياً فى سبيل القضاء على الأدوات الإيرانية فى الإقليم، مدركة من جهة قلة خيارات طهران أمام الضربات الإسرائيلية، لا سيما مع تأكيد وزيرى الخارجية والدفاع الأمريكيين الالتزام الأمريكى للحفاظ على أمن إسرائيل، ومن جهة أخرى تدرك إسرائيل حاجة طهران للتفاهم مع الغرب وواشنطن والاعتراف بها كمفتاح لحل تعقيد الصراعات فى المنطقة. والسؤال هو: بعد تآكل قدرات الردع الإيرانية أمام إسرائيل، وبعد الضربات الموجعة التى تلقَّاها حزب الله، هل تتجه إيران إلى التركيز على امتلاك برنامج نووى عسكرى فى الفترة المقبلة؟ وهل بعد القضاء على القدرات التنظيمية والعسكرية للجماعات المسلحة التابعة لإيران فى الإقليم، يكون القضاء على البرنامج النووى الإيرانى على قائمة بنك الأهداف الإسرائيلية؟ وهل ستتجه إيران إلى الاعتماد على الدور العسكرى للحوثيين بديلاً عن حزب الله لحين استكمال تسليحه وتنظيمه مرة أخرى؟
* أكاديمية
رئيس وحدة الدراسات الإيرانية بـ«المركز المصرى»