«المقاومة» والتعليم و«بداية جديدة لبناء الإنسان»

أمينة خيرى

أمينة خيرى

كاتب صحفي

تحققت التكهنات التى انطلقت يوم 8 أكتوبر 2023. اتسعت رقعة الصراع. ودخل لبنان على خط الحرب المباشر. وكأن تأجيج الموقف عبر الوكلاء، ووكلاء الوكلاء لم يكن كافياً، فإذ بجبهة جديدة تدور رحاها على حساب المدنيين أولاً وأخيراً.

أيام وتطفئ الحرب الدائرة فى غزة، والممتدة شظاياها فى المنطقة عامها الأول. هذا العام يكفى تماماً لتقييم ما جرى منذ السابع من أكتوبر، لا قبله. لماذا؟ لأن حتى المقاومة يجب أن تكون محسوبة. صحيح أنها فى أغلبها تكون دفاعاً عن حق مسلوب، واستعادة لأرض محتلة، وحفاظاً على كرامة، ولكن أن تمضى قدماً على جثامين ملايين المدنيين تحت راية «مقتل المدنيين ضرورة» أو «تضحية ضرورية»، فهنا يجدر أن يُسأَل المدنيون أنفسهم فى ذلك، أو على الأقل تُستَشف رغباتهم الحقيقية.

حتى المقاومة يجب أن تكون لها حسابات. وحتى لو كانت من نوعية الحرب الدائرة، حيث تدخل إسرائيل بآلة عسكرية وذراع تقنية غاشمتين حلبة صراع، وهى أشبه بوحش كاسر يدهس من يتصادف مروره تحت قدميه، ولكن يبقى عاجزاً عن الوصول أو حتى رؤية المخابئ الصغيرة والمكامن البعيدة، فإن خسائر الأرواح من المدنيين والتشريد والتجويع واحتمالات خسارة الأرض التى يرحلون عنها، جميعها تستوجب مراجعة تكتيك، والله أعلم!

علم من نوع آخر يظل يفرض نفسه فاعلاً رئيسياً فى الصراع الآخذ فى الاتساع. ظهر واضحاً جلياً فى حرب روسيا فى أوكرانيا، حيث الغلبة ليست فقط لقوة العتاد وبأس الرجال، ولكنها أيضاً لبريق العلم والتقنية.

صحيح أن هذا النوع من البريق قاتل، لكنه يظل بريقاً ينبه -من يرغب- أن العصر الحالى والمستقبلى هو عصر العلم، أكثر من إخضاع العلم للنقد «الثقافى» بأنواعه. بمعنى آخر، نجح برنامج «العلم والإيمان» للراحل الدكتور مصطفى محمود فى السبعينات والثمانينات نجاحاً ما زلنا نحكى عنه ونتحاكى. إنتاج العلم شىء، ونقده شىء آخر، وتركيب المفاهيم الدينية عليه شىء ثالث. ضرورى ومهم أن يخضع العلم والبحث والتكنولوجيا لقيم ومعايير أخلاقية، وإلا خربت الدنيا تماماً. ولكن أن يكتفى فريق بتلقى ما يصل إليه العلم لنقده دون أن يكون له دور فى مرحلة تصنيع العلم وإنتاجه، فإن هذا يعنى أن يبقى المُصَنِع يصنع، والمتلقى يتلقى دون أن يكون له دور فى التصنيع. ليس هذا فقط، بل إن الاكتفاء بدور النقد فى هذه الحالة يعطى المجتمع إحساساً كاذباً بأنه لاعب رئيسى أو فاعل حقيقى فى تصنيع العلم والتقنية، بينما هو متلق فقط، بل متلق لما يريد الصانع أن يمنحه إياها فقط!

وغير بعيد عن مسائل العلم والعلماء، يدور الكثير هذه الأيام فى أروقة «التربية والتعليم». الوزير الأستاذ محمد عبداللطيف يتحرك على أصعدة عدة، والعام الدراسى فى أوله، والجميع مهيأ لعام دراسى جديد، وربما مختلف، أو هكذا أتمنى. أتمنى أن يكون مختلفاً من حيث «العودة» إلى مسار إصلاح التعليم، لا الترميم. أخبار الوزارة والوزير والطلاب والمدارس تملأ الأثير، ولكن أقترح أن تكون هناك جلسة أو ندوة أو حوار أو إطلالة ما للوزير المحترم الأستاذ محمد عبداللطيف ليشرح فيها خطة الدولة الحالية والخاصة بمنظومة التعليم. أخشى ألا تنال الوزارة حقها العادل من التقييم، أو تتبدد الجهود التى من الواضح أنها تبذل بشكل مكثف فى زحمة تصريحات مبانى المدارس، وفصول الدرس، والواجبات المنزلية، ورواتب ومكافآت المعلمين، والكتب المدرسية وغيرها. جميعها أمور بالغة الأهمية، وتأخذ وقتاً وجهداً ومالاً إلخ. أعتقد أننا جميعاً فى حاجة للإجابة عن سؤال: هل قررنا إصلاح عقيدة التعليم وتصحيح المسار؟ أم قررنا تقليم الأفرع وترميم الهيكل وإعادة طلاء الواجهة؟ وفى القلب من السؤال، ومع كل الاحترام لكل أهالى الطلاب فى مصر، لا سيما الأمهات، هل سيتم السماح لـ«جروبات الماميز» بتقرير مصير التعليم. الأمهات طرف أصيل فى العملية التعليمية لصالح الأجيال الناشئة، ولكن عن طريق البناء لا الهدم.

وعلى سيرة الهدم أقول إنه أحياناً فى وسط ما يبدو أنها عتمة ثقيلة، يبزغ نور مضىء يعيد الأمل ويصحح مسار الروح والمستقبل. سيتعجب البعض حين أقول إن هذا ما حدث معى أخيراً. لأننى عاصرت مصر الحقيقية قبل قرار البعض التخلى عن الهوية المصرية منذ سبعينات القرن الماضى، وخروج أجيال تعتقد أن ما يعيشه البعض من انغلاق فكرى وشيزوفرانيا سلوكية حيث تشدد دينى وانفلات سلوكى فى آن هو هوية مصر، ومصر منه بريئة، ولأننى كنت قد بدأت فى فقدان أمل استرداد مصر النور والحضارة والانفتاح الفكرى، فقد ساقنى القدر للمحطات الجديدة لمترو الأنفاق فى رحلات ذهاب وعودة بين «جامعة الدول العربية» و«كلية البنات». نظافة، انضباط، موظفون غير منشغلين بغير العمل، يردون على استفسارات المواطنين دون عبوس وقرف، إذاعة داخلية تبث رسائل بسيطة رشيقة عن مصر الحقيقية دون وعظ وإرشاد. هل تكون «بداية جديدة لبناء الإنسان المصرى» حقاً؟