فى تحليل الظاهرة: التوريث "جزء من ثقافة المصريين".

فى تحليل الظاهرة: التوريث "جزء من ثقافة المصريين".
تباينت آراء المفكرين وأساتذة علم النفس والاجتماع، حول دوافع وأسباب «ظاهرة التوريث»، ومدى قبولها أو رفضها، إلا أنهم اتفقوا جميعاً على أنها سمة من سمات المجتمع المصرى على مستويات مختلفة، وجزء من ثقافته وتاريخه وحاضره، بالرغم من التحولات الكبرى التى شهدها المجتمع، والتغيرات السياسية والاجتماعية من عصر لآخر، ومن حقبة زمنية لأخرى.
«انطباعى الشخصى أن طبيعة المصرى هى مع فكرة التوريث عموماً»، قال الدكتور يحيى الرخاوى، أستاذ الطب النفسى، معتبراً أن التوريث سمة عادية وجزء من الطبيعة البشرية، بل أحياناً قد يصبح التوريث أمراً ضرورياً وقاعدة مهنية، مؤكداً قبوله بـ«فكرة التوريث» بشرطين، الأول ألا تتم على حساب مَنْ هو أولى وأقدر، والثانى أن يقوم المورِّث بتوريث حمل الأمانة، وليس فقط بتوريث مزايا الموقع أو المركز أو الوظيفة، مضيفاً «حتى توريث المال فى الإسلام هو ليس توريثاً بالمعنى المتداول، ولكنه تحميل أمان المال، الذى هو مال الله، يسلمه المورِّث لمن يتصور أنه أقدر على حمل أمانته لتوصيلها إلى الأوْلى بها، والأحق بالانتفاع منها، لا أكثر ولا أقل».
«الرخاوى» أكد أنه لا يصح جمع توريث البرلمان والقضاء والمراكز العلمية، مع توريث المهن والحرف، موضحاً «علّمنا المثل المصرى الجميل أن نقل المهارة للأقرب هو شغل المعلم لابنه، لأنه يريد أن يورثه سر المهنة، وأحياناً إتقان الصنعة وحب الإبداع، وهذا مسموح به، لكن ليس على حساب من هو أحق وأمهر، وليس بالطرق غير المشروعة، وإهدار مبادئ المساواة والعدالة».
وحول حقيقة شعار «لن أعيش فى جلباب أبى»، وارتباطه بالمجتمع المصرى، قال إن هذه الشعار مجرد صيحة ظهرت ليعبر من خلالها الجيل الأصغر عن حقه فى الاستقلال والتميز عن والديه، ولا بد أن تتاح له الفرص لذلك، شريطة أن يكون الاستقلال كاملاً ومعلناً ومسئولاً، دون صفقات سرية داخلية يدعيها من يخلع جلباب أبيه ثم يسرق معطفه ومفتاح خزائنه، ويشير أستاذ الطب النفسى إلى أن العديد من أفراد عائلته خاضوا الطريق نفسه، «أنا شخصياً لى بنت أستاذ فى الطب النفسى، وابن أستاذ مساعد فى نفس التخصص، كما أن ابنى الأكبر حاصل على دكتوراه فى علم النفس، ويعمل حراً معى، وبنتى الصغرى حاصلة على دكتوراه فى علم نفس الأطفال ولها مركزها التأهيلى الخاص بها، فكيف أدّعى أن شخصية المصرى ضد التوريث، وأنا لا أريد أن أدافع عن نفسى، ولكن يشهد الله أننى قد حاولت أن أطبق عليهم جميعاً القاعدة الإيجابية ما أمكننى، ولا تنس أننى صاحب حرفة اسمها فن الطب».
وأضاف «الرخاوى» أن المصريين رفضوا ما يسمى بـ«مشروع التوريث» قبل ثورة 25 يناير، من «مبارك الأب» إلى «مبارك الابن» لأنه لم يكن عادلاً ولم يكن «شغل المعلم لابنه»، ولم يكن صريحاً، ولم يكن قانونياً، فقد كان يمثل الجانب السلبى للتوريث على طول الخط، موضحاً أن ضبط عملية التوريث فى إطارها السليم، يكون من خلال التأكد من توفير شروط العدل، والمساواة فى الفرص، وتوريث حمل الأمانة مع توريث مزايا البداية من حيث انتهى الجيل الأكبر.
من جانبه، اعتبر المفكر الكبير جلال أمين، أن المجتمع المصرى ثقافياً مجتمع يقبل التدرج والأبوية، وما يمكن تسميته بـ«الطابع الميراثى»، وبرغم تحولاته الكبرى فإن هذا الطابع انتقل من نظام لآخر، ومن عصر لآخر، وهناك كم كبير من السلوكيات والعادات والأفكار والمهن والحرف تم توارثها جيلاً تلو آخر، إلا أن «مشروع التوريث» الذى اشتهر فى نهايات عصر مبارك، كان له دلالات ودوافع أخرى جعلت المصريين يرفضون هذا الأمر، موضحاً «المصريون قبلوا توريث العرش الذى أدخله محمد على فى مصر فى منتصف القرن التاسع عشر، عن طيب خاطر عندما كان العالم كله تقريباً يعيش فى ظل ملكيات مستبدة، ثم كافحوا من أجل ملكية دستورية ظفروا بها بعد ثورة 19، ثم كافحوا من أجل جمهورية مستقلة مع ثورة 52، وبرغم الأخطاء الكبرى التى حدثت بعد ذلك فإنهم قبلوا استمرار هذا النظام الذى بدأ يفقد شرعيته بتوارث حقبة بعد أخرى، حتى عادت نغمة التوريث بصورة مباشرة من أب لابن فى الألفية الجديدة لتعيد المصريين إلى نقطة الصفر فى كفاحهم الطويل، وكان ذلك إلى جانب ما لحق بحال المصريين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، من تراجع وتدهور وتآكل، سبب غضبهم ودافعاً كبيراً وراء ثورتهم».
الدكتور محمد سيد أحمد، أستاذ علم الاجتماع، قال إن الذين ثاروا فى 25 يناير 2011 خرجوا ضد نظام يرفضونه، ومحاسيب عصر «مبارك» المكروهين لدى الرأى العام، فالنظام نفسه كان غير جدير بالاستمرار، فكيف له أو يورث، والثورة كانت ضد نظام كامل ترفضه شريحة كبيرة من المصريين فى آخر 10 سنوات، ولم يكن خروجاً ضد فكرة «التوريث» فى حد ذاتها، خاصة عند عموم الشعب فلم تكن تلك القضية محل دافع حقيقى لديهم للثورة، خاصة أنه حدث «تطويع» للموروث الثقافى لخدمة فكرة التوريث سياسياً على مدار سنين طويلة، خاصة فى العشرة أعوام قبل ثورة يناير، وأصبح التوريث بالفعل ظاهرة منتشرة ومحل قبول تحت شعارات مثل «اللى نعرفه أحسن من اللى منعرفوش»، و«ابن الوز عوام»، إلى آخره.
أستاذ علم الاجتماع حاول التمييز بين نوعين من التوريث، هما «التوريث الحلال»، و«التوريث الحرام»، قائلاً إنه لا يوجد ضرر فى ممارسة التوريث فى بعض المهن أو الحرف أو الوظائف، لا سيما إذا كان الأمر يتعلق بمشروع خاص، ورشة أو محل أو شركة، «فى هذا الإطار لا توجد مشكلة، ولا يوجد ما يمس حقوق المواطن التى يكفلها القانون والدستور»، مضيفاً أن الإشكالية الكبرى تظهر مع «التوريث الحرام» الذى يتعلق بالوظائف العامة، لأن ذلك يخل بمبدأ العدالة الاجتماعية، وفرص التكافؤ والمساواة، مثل أجهزة الدولة والقضاء والنيابة والجامعات.
وأكد «أحمد» أن الكثيرين يمارسون التوريث بنوعيه، المقبول والمنبوذ، حتى صارت الظاهرة منتشرة بصورة كبيرة ومتغلغلة داخل المجتمع وممتدة فى جذوره وتشكل جزءاً من ثقافته، إلا أن ذلك لا ينفى وجود معايير ثابتة ومحددة، أهمها أن الإخلال بمبادئ العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص، والسعى للاحتكار العائلى لوظائف أو مناصب عامة، أمر غير مقبول ويؤدى إلى مشكلات وكوارث على المستوى البعيد، أهمها ترسيخ مشاعر الظلم والطبقية والاحتقان داخل المجتمع، وانعدام الثقة والمصداقية ودوافع التميز والمنافسة، ما يضر بالمجتمع ويوقف قدرته على الإبداع والتطور والنمو.