«جوتيريش».. استقل و«أسألك الرحيلا»!

جمال حسين

جمال حسين

كاتب صحفي

أيام قليلة تفصلنا عن الذكرى السنوية الأولى لحرب الإبادة البشرية التى تمارسها إسرائيل ضد الشعب الفلسطينى الأعزل فى قطاع غزة.. عام كامل على بدء العدوان الوحشى الذى تعرض خلاله الشعب الفلسطينى الأعزل ولا يزال لإبادة جماعية أسفرت عن سقوط 50 ألف شهيد و150 ألف مصاب حتى الآن بينهم 70% من الأطفال والنساء والعجائز دُفنوا تحت أنقاض منازلهم التى دكتها الطائرات الإسرائيلية بآلاف الأطنان من المتفجرات التى هدمت المنازل ودمرت البنية التحتية والمستشفيات والمدارس ومحطات المياه والكهرباء وأتلفت الزراعات وقضت على الأخضر واليابس.. كل ذلك تم ويتم بمباركة ودعم أمريكى أوروبى بالمال والسلاح والجنود والعتاد على مرأى ومسمع من كل دول العالم والأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان التى حجزت أماكنها فى مقاعد المتفرجين بعد أن كانت تقيم الدنيا ولا تقعدها لمجرد مزاعم عن تعرض شاب فى مصر للتعذيب فى أحد أقسام الشرطة بينما لم تحرك ساكناً وهى ترى أنهار الدماء وأطنان الأشلاء تتناثر فى الشوارع والطرقات لتصبح غذاء للكلاب والحيوانات الضالة، بينما يموت باقى الفلسطينيين جوعاً وعطشاً بعد أن منعت إسرائيل وصول المساعدات إليهم.

وإذا كنت لا أستطيع توجيه اللوم لمنظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدنى العالمية لأننا جميعاً نعلم انتماءاتها وأهدافها ومصادر تمويلها، لكنى أوجه اللوم وأتعجب وأندهش من الموقف المخزى ومشاهد الخزى والعار التى رأيناها من الأمم المتحدة ولا يمكن أن أعفيها من المسئولية، لأن الهدف الأول من إنشائها هو الحفاظ على السلم والأمن الدوليين والوقوف فى وجه الدول المعتدية ولو بالقوة حسب القواعد والمواثيق التى تنظم عمل هيئاتها.. العار سيلاحق مجلس الأمن الدولى الذى أصبح أضحوكة ودمية فى يد الفيتو الأمريكى يحركه كيفما يشاء وقتما يشاء.. أما الجمعية العامة للأمم المتحدة فتشبه السيدة العجوز تقول كلاماً وخطباً رنانة لا تستطيع تنفيذها لتظل قراراتها حبيسة الأدراج، ونفس الحال ينطبق على محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية اللتين تعجزان حتى الآن عن اتخاذ قرارات بمحاكمة وملاحقة «نتنياهو» وعصابته كمجرمى حرب رغم صدور أحكام بذلك!

أما عن موقف أنطونيو جوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، فحدث ولا حرج.. احترمته جداً فى بداية العدوان الإسرائيلى الغاشم على قطاع غزة عندما اتخذ موقفاً مشرفاً قوياً عادلاً وجاء بنفسه إلى مصر ومنها إلى بوابة رفح، وظهر الحزن والتأثر الشديد على ملامح وجهه لهول ما رأى من مشاهد يندى لها جبين البشرية.. وقتها انحاز إلى ضميره وإلى إنسانيته ولم يخش غضب إسرائيل وأمريكا، علماً أنه يعرف أن هذا الغضب قد يكلفه منصبه كما حدث مع بطرس غالى الذى تجرأ وأدان إسرائيل بعد ارتكابها مذبحة قانا فى جنوب لبنان يوم 18 أبريل 1996.

«جوتيريش» جاء إلى رفح المصرية فى 20 أكتوبر الماضى، بعد 13 يوماً من بدء العدوان فى 7 أكتوبر، ووقف مندداً ومديناً ومطالباً بإيقاف الحرب فوراً وسرعة إنفاذ المساعدات العالقة لإنقاذ الفلسطينيين المحاصرين المعرضين للموت جوعاً وعطشاً إن أفلتوا من جحيم القصف العشوائى لمنازلهم.. وهنا شنت إسرائيل هجوماً حاداً عليه وطالبته بالاستقالة، وقال وزير الخارجية الإسرائيلى يسرائيل كاتس إن فترة ولاية جوتيريش تشكل خطراً على السلم العالمى، وسارع «نتنياهو» وعصابته إلى شن حرب ضروس ضد جوتيريش وأدانوا تصريحاته واتهموه بأنه معادٍ للسامية ويساند حماس. «نتنياهو» شن هجوماً حاداً على جوتيريش، رداً على إدراج الأمم المتحدة جيش إسرائيل فى قائمة الأطراف التى ترتكب انتهاكات ضد الأطفال، المعروفة إعلامياً بـ«قائمة العار»، وزعم أن الأمم المتحدة بقرارها هذا «وضعت نفسها على القائمة السوداء للتاريخ لأنه شجع الإرهاب وقراراته بدافع الكراهية لإسرائيل»، وكذلك هاجم وزير الخارجية الإسرائيلى «جوتيريش» وقال سيذكر التاريخ أنه أمين عام معادٍ للسامية.

أما المندوب الإسرائيلى الدائم لدى الأمم المتحدة جلعاد إردان فاتهم جوتيريش بـ«الانحراف الأخلاقى».

ودخلت على الخط أمريكا وحلفاؤها ضد «جوتيريش» وشنوا عليه هجوماً ضارياً وحرباً شعواء لإجباره على التزام الصمت ونجحوا فى ذلك فلم نعد نسمع له حساً وتبخرت قراراته ووعوده ولم يعد يظهر إلا فى مناسبات متباعدة، لدرجة أن البعض روّج أن أمريكا وإسرائيل نجحتا فى إقصائه وتحييده، ولا عزاء للأمم المتحدة التى كان اسمها يوماً ما «عصبة الأمم» لقوتها وقراراتها الحاسمة والنافذة على جميع الدول ولو بالقوة العسكرية من خلال مجلس الأمن الذى يستحق أن نطلق عليه الآن «مجلس العار»!

نجحت الضغوط الإسرائيلية الأمريكية وصمت الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، أو بالأصح تم إسكاته بفعل فاعل حتى نطق منذ ساعات فى مقابلة مع وكالة «فرانس برس» وقال على استحياء «لا شىء يمكن أن يبرر العقاب الجماعى الذى تفرضه إسرائيل على الفلسطينيين فى قطاع غزة، والذين يعانون بشكل لا يمكن تصوره وهو ما نراه بشكل دراماتيكى فى غزة».. وأشار إلى أن ما يحدث فى غزة أمر لا يمكن تصوره، حيث يعانى الناس بمستوى غير مسبوق من المآسى، ومعدل الوفيات والدمار لا يُضاهى بما شهده منذ توليه منصبه أميناً عاماً للأمم المتحدة!

لا يا سيد «جوتيريش» ليس هكذا تدار أهم وأكبر منظمة أممية فى العالم.. لن يغفر لك التاريخ أنك ومنظمتك وقفتم عاجزين عن وقف حرب الإبادة التى تمارس ضد شعب فلسطين الأعزل.. كان الأشرف لك أن تتقدم باستقالتك من منصبك احتجاجاً على استمرار تلك المجازر والمذابح وسفك الدماء وأن تفضح أمام العالم كله تلك الضغوط الأمريكية والإسرائيلية التى مورست ضدك وضد الأمم المتحدة لإرهابكم حتى تلتزموا الصمت المريب.. وقتها كنا سنحترمك أكثر وكان التاريخ سيخلد اسمك بين عظماء العالم، وربما تكون استقالتك سبباً غير مباشر لوقف المجازر التى لم تنجح وأنت فى منصبك فى إيقافها ضد الفلسطينيين الذين تباكيت يوماً من أجلهم عند بوابة رفح!.. افعلها يا رجل يرحمك الله.. واستقل من منصبك احتجاجاً على تلك المجازر فربما يكون فى الاستقالة إفادة!