الطريق الدائرى سُبة فى جبين المصريين

أمينة خيرى

أمينة خيرى

كاتب صحفي

الأصدقاء الساكنون فى مدينة الشروق يبشروننى بأن طريق «القاهرة - السويس» اتسع وصار كالحرير، فازداد خوفاً وتقوقعاً وميلاً إلى الانغماس فى زحمة القاهرة الفوضوية وعشوائيتها المرورية المحبّبة إلى كل نفس كارهة السرعة. ويخبروننى أن طريق الإسماعيلية تحول إلى جوهرة، وملامحه أضحت أقرب ما يكون إلى العالم المتقدم، باستثناء القليل من ميكروباصات طائشة أو نصف نقل مدمرة أو ربع نقل حائرة، فأتغلغل أكثر فى عوالمى المرورية الغارقة من شوشتها إلى أخمص قدميها فى مزانق روكسى والكوربا وأحياناً مخانق الميريلاند والنزهة. والحكاية تتلخص فى أبعاد بشرية غائبة عن كثيرين (بمن فيهم المسئولون) تفرض سطوتها على التحسينات، وتبسط هيمنتها على التعديلات. فكلما اتسعت الطرق وعلت إمكاناتها وتيسرت خدماتها فى مصر المحروسة، ضاقت الأدمغة وتسطحت إمكاناتها وتعثّرت قدراتها المنطقية فى التعامل معها باعتبارها طرقاً لها قواعد ولا يستوى حالها إلا باتباع القانون. وقد علمتنى الحياة أنه كلما ضاقت الطرق، وزادت المطبات العشوائية، واستقوت الإشغالات الشعبية (من مقاهٍ وأكشاك وأصحاب محلات يقررون الاستيلاء على جزء من نهر الطريق)، زادت فرصى فى البقاء على قيد الحياة بعد إكمال المشوار وإتمام المصلحة والوصول إلى الدار قطعة واحدة. والعكس صحيح. فكلما اتسعت الطرق، وتقلصت العشوائيات الأهلية، واختفت الإشغالات الشعبية، زادت احتمالات الانتقال إلى الدار الآخرة. ولا يخفى على أحد مفهوم القيادة المنتشر لدى الغالبية العظمى من قائدى كل ما يجرى على أربع عجلات (بالإضافة بالطبع إلى الأقل، حيث الثلاث عجلات من تروسيكل وتوك توك» ومضاعفات الستة، حيث النقل والنقل بمقطورة وغيرهما)، من أن القيادة مسألة حياة أو موت، أى إما قاتل وإما مقتول. وحتى أولئك الذين ينتهجون نهجاً أكثر سلمية وأعتى انهزامية، فهم يرون فى القيادة مسألة كرامة ومهابة. فكلما كان القائد (السيارة) لا يهاب الإشارات ولا يلقى بالاً للحارات ولا يأبه للعلامات ولا تهتز له شعرة أمام لافتة محذرة من ملف عتيد أو منزل شديد، كان مثاراً للاحترام ومصدراً للافتخار. وبالطبع فإن تلك الفئة الضالة التى تلتزم بالإشارات أو تعير انتباهاً للخطوط المتقطعة أو المتصلة وتعى معانيها، هى الفئة التى رضيت على نفسها الاستهانة حتى صارت مهانة. القطاع الأكبر من قادة السيارات وقاداتها على يقين بأن قانون الغاب يسيطر، وأن البقاء للأقوى، وأن الضعيف لا مكان له ولا مجال لوجوده. أغلب الظن أن كل ما سبق ليس بجديد، بل يكاد يكون مقبولاً ومحموداً ولا يشكل ضرراً أو ضراراً باستثناء بضعة آلاف يسقطون صرعى حوادث طرق نسميها «قضاءً وقدراً» ولا ننعتها طيشاً وسفهاً، أو إهمالاً وجهلاً. لكن كله كوم والطريق الدائرى كوم آخر تماماً. أغلب الظن لو أطلقت يد الدواعش للقيادة عليه (لا قدر الله) لارتعبوا وارتعشوا وعرفوا أن الله حق. الكلمات لا توفى حال الطريق حقها، ولا تصف سلوكيات قادة السيارات التى تقف كلمات مثل «شذوذ» و«عته» و«سفه» و«خلل» و«جنون» و«وحشية» فى حيرة من قلة حيلتها وضعف فحواها أمام ما يجرى على الطريق الدائرى. ولندع عيوب الطرق جانباً وننظر ملياً إلى تصرفات البشر. فبفضل كوكتيل من قادة ميكروباص لا يعوون سوى قواعد البلطجة، أو قادة سيارات نقل حيث الاعتماد على ترهيب الآخرين، أو باصات نقل عام يعرفون معرفة يقينية إن أحداً لن يقوى على إجبارهم على التزام القواعد، أو قائد الملاكى الذى يتلخص مفهومه الإيمانى فى التسليم بأن الموت علينا حق، أصبح «الطريق الدائرى» سُبة فى جبين مصر. أما مسئولية ضباط المرور، فلهذا حديث لاحق!