نقلة نوعية في صناعة التشريع
نشهد الآن ظاهرة صحية، وجديرة بالاهتمام، وأقصد بها ذلك الجدل الصاخب، حول مشروع قانون الإجراءات الجنائية.والحوار الدائر بين الأطراف وثيقة الصلة بمشروع القانون -رغم سخونته- يشير إلى حالة من الحراك المجتمعى والسياسى، ويدلل على ارتفاع الوعى بأهمية قانون الإجراءات الجنائية، ولا يعبر عن أزمة، حسبما يريد البعض تصوير المشهد، وهذا ما أكده مجلس النواب فى بيانه الأخير، الذى أشار فيه صراحة إلى أن التشريع نتاج عمل جماعى تشاركى هدفه إرساء نظام قضائى عادل يحمى الأفراد ويصون المجتمع.وفى الفقه القانونى الراسخ، فإن «التشريع» عملية سياسية، شأنه فى ذلك شأن عمليات صناعة السياسات، التى يتوجب عليها مراعاة التوازنات بين اعتبارات متقابلة، تعكس فى طياتها مصالح العديد من أطراف المجتمع.
ومن الطبيعى أن يدلى كل طرف برأيه، ويمد قلمه لأبعد مدى، آملاً صياغة القانون لتحقيق مصالحه والحفاظ على حقوقه، كما يراها، وهذا ما نراه الآن من نقابتى المحامين والصحفيين، ومن السلطتين التنفيذية (الحكومة)، والتشريعية (مجلس النواب)، وحتى من الأحزاب السياسية، وقادة الرأى العام من الكتاب والحقوقيين.ومن الطبيعى أيضاً أن يسعى كل طرف لاستمالة الرأى العام لصالحه، وهذا ما يحدث على الأرض الآن، مع الأخذ فى الاعتبار أن الجميع استند فى تحركاته على الدستور، والتزم بمحددات تحقيق الصالح العام، وهذه نقلة نوعية فى صناعة التشريع، لا يجب أن نغفلها، وأن نستثمرها للبناء عليها، لتحقيق طموحنا فى الانطلاق نحو بناء الجمهورية الجديدة، والذى لن يتم إلا عبر نقلات نوعية ملموسة فى كل المجالات، رغم ما يواجهنا من تحديات.فى رأيى المتواضع أن قطار الإصلاح التشريعى الشامل بدأ رحلته بإعادة النظر فى قانون الإجراءات الجنائية، الصادر منذ ثلاثة أرباع القرن، ولم يعد صالحاً لمزيد من «الترقيع» الذى نسميه تأدباً «تعديل»، وكشف الأثر التشريعى لتطبيقه، ضرورة تغييره كاملاً.وعملية الإصلاح التشريعى ليست هينة كما يتصورها البعض، وهى مهمة صعبة ومركبة، وتقتضى من مجلس النواب جهداً ودأب ومثابرة، لتحقيق مصلحة المجتمع فى صورتها المجردة، ودون التقيد بأجندات سياسية لفصيل أيديولوجى، أو مصلحة محددة لطرف على حساب بقية الأطراف.
الروح الإيجابية التى يتعامل بها مجلس النواب مع كافة المهتمين والمعنيين بمناقشة مشروع قانون الإجراءات الجنائية، من أفراد ومؤسسات ونقابات، وتأكيده أن الغاية المشتركة هى تحقيق العدالة لضمان حماية حقوق الجميع، وأن التشريع نتاج عمل جماعى تشاركى هدفه إرساء نظام قضائى عادل يحمى الأفراد ويصون المجتمع، من شأنها قطع الطريق على المتربصين ببلادنا، ممن يستهدفون إشعال الفتن بين الشعب المصرى والمؤسسات الوطنية، وبين المؤسسات وبعضها البعض.
ورغم أن لجنة الشئون الدستورية والتشريعية بمجلس النواب انتهت من مناقشة مشروع القانون، إلا أن المجلس أكد استعداده لتلقى أى تعديلات، قد يراها البعض ضرورية على مشروع قانون الإجراءات الجنائية الجديد، وهو ما يبشر بخروج القانون فى أفضل صورة ممكنة، وهذا ما ننتظره ونأمله.