«السوشيال ميديا».. كل يوم أزمة جديدة
في الأسبوع الماضي، كنا على موعد متجدد مع المعارك المُزمنة بين الحكومات والإعلام، وبينما سجلت وسائل الإعلام "التقليدية" تاريخاً حافلاً في هذا الصدد، فإن جديد تلك المعارك يتعلق اليوم بوسائل "التواصل الاجتماعي"، التي تتسع هيمنتها على الفضاء الاتصالي العالمي باطراد.تقول الحكومات التي تخوض هذا الصراع عادة إنها تسعى إلى ضبط الأداء الإعلامي، وضمان حماية المصالح العامة، ومقتضيات الأمن القومي، وهو كلام مسؤول ومُهم، وينطوي على وجاهة، لكن وسائل الإعلام التي تنخرط في تلك النزاعات لديها دفوع أخرى؛ إذ تؤكد أن عملها ينطلق من مبادئ حرية الرأي والتعبير، التي هي جزء من المصلحة العامة، وعامل جوهري لتحقيقها وصيانتها.لا يقع هذا الصدام في الشرق حيث الشكاوى والانتقادات لحالة الحريات وأدوار الإعلام والمساحات المسموح له بارتيادها، لكنه يقع أيضاً في العالم الغربي، وفي أفضل مفاصله، وأكثر بقاعه مناداة بحرية الرأي والتعبير، ودفاعاً علنياً عنها.أما الجديد في هذا الصدد فيتجسد في خبرين؛ أولهما يخص الملياردير الروسي/ الفرنسي/ الإماراتي، بافيل دوروف، مؤسس ومدير منصة "تليجرام" الرائجة، الذي اعتقلته السلطات الفرنسية، قبل أن تفرج عنه ضمن إطلاق سراح مشروط، وبكفالة ضخمة، على ذمة قضايا عديدة تتصل بالجريمة المُنظمة، وهو أمر يرفضه دوروف طبعاً، مؤكداً، هو وأوساطه، أن "دوافع توقيفه تعود إلى رغبة بعض الحكومات في الحصول على بيانات حساسة تخص مستخدمي منصته، وهو الأمر الذي يرفضه".وأما الخبر الثاني، فيتعلق بالملياردير ذائع الصيت إيلون ماسك، الذي يمتلك ويدير منصة "إكس" ("تويتر" سابقاً)، حيث أصدرت المحكمة البرازيلية العليا قراراً يقضي بحظر المنصة في البلاد اعتباراً من أول أمس السبت، في حال لم تلتزم بدفع غرامات موقعة عليها بسبب "مخالفات"، وبتعيين ممثل قانوني لها في البرازيل.لقد رفض ماسك قرار المحكمة، وفوت مهلة مدتها يوم واحد للتجاوب معه، بعدما طعن في نزاهة القاضي، واعتبر أنه جزء من استهداف سياسي، يسعى إلى تحجيم أثر المنصة عشية الانتخابات البلدية المقبلة، والتي تعكس تنافساً ساخناً بين جناح الرئيس لولا دي سيلفا وخصومه من اليمين، الذين يؤيدون مواقف ماسك.الاتهامات التي توجه إلى منصة "تليجرام" في فرنسا، وغيرها من الدول، تتصل بالانتقادات الحادة لها باعتبار أنها "وفرت ملاذاً ووسيلة اتصال آمنة لمرتكبي بعض الجرائم"، بسبب سياسات التشفير التي تتبعها، والتي يبدو أنها ساعدتها في رفع عدد مستخدميها إلى نحو 950 مليون مستخدم، وتضخيم قيمتها السوقية لتبلغ نحو 15 مليار دولار أمريكي.أما الاتهامات التي توجه إلى "إكس" فتتعلق بـ "التضليل والتلاعب والتأثير في اتجاهات الجمهور خصوصاً في أوقات الانتخابات وتفجر الأزمات".لا يمكن تبرئة أي من المنصتين من الاتهامات الموجهة لهما من دون تحقيق نزيه وشفاف، ومن دون أحكام قضائية تصدر عن محاكمات عادلة بما يكفي، لكن إغفال الرغبة السياسية لدى عدد من الحكومات المنخرطة في تلك الصدامات لـ "تعقيم" المجال الإعلامي والاتصالي، أو تأطيره لخدمة أهداف معينة، ليس عملاً صائباً أيضاً.تمتلك الدولة الحق في سن القوانين الملائمة لتفعيل سيادتها على مجالها الاتصالي، بما يحافظ على السلم الأهلي، والأمن، وحقوق المقيمين في نطاق سلطتها، ومصالحها العليا، لكن هذا الحق لا يجب أن يجور على حقوق أخرى أصيلة تتعلق بحرية الرأي والتعبير والخصوصية.والشاهد أنه لا يكاد يمر يوم من دون أن نسمع عن معركة جديدة تنشأ عن تصادم الإرادات وتباين الرؤى إزاء قدرة الدولة على تحقيق هذا التوازن، وهو أمر يشمل عديد الدول؛ سواء كانت تُصنف متقدمة أو نامية، وديمقراطية أو شمولية.لقد أدت التطورات العالمية الحادة والخطيرة إلى تعزيز الضغوط على عديد الدول، وبموازاة تلك الضغوط والمخاطر ستعمد الحكومات إلى فرض المزيد من القيود على الإعلام وتداول المعلومات، وستكون ذرائعها في ذلك مُستمدة من شيوع التضليل والاستخدام المُسيء للبيئة الاتصالية، وهو أمر سيؤدي إلى عواقب وخيمة، إن لم يتسم بقدر مناسب من التوازن والعدالة.وبينما كان معظم التركيز الحكومي في دول العالم المختلفة منصباً على منصات الإعلام "التقليدية" التي كانت أكثر قابلية للتحكم وقبول التدخلات، فإن تغير المشهد الاتصالي العالمي، وبروز الدور الكبير لوسائط "التواصل الاجتماعي" في التأثير السياسي، نقل الصدامات إلى ساحتها.إن توالي إجراءات الاستهداف لمنصات "التواصل الاجتماعي" بالوسائل القانونية والسياسية وأيضاً التجارية، إنما يعكس أهمية هذه المنصات المتزايدة، ويوضح الدور الكبير الذي باتت تؤديه في ملف السياسة والشئون العامة، من خلال طاقتها الكبيرة، وديناميات التفاعل عبرها، وصعوبة حظرها أو تقييدها.وبينما تتوسل تلك المنصات وأصحابها بقيم حرية الرأي والتعبير، وطبيعة عملها المستند إلى الإتاحة وتسهيل التفاعل، فإن عليها أيضاً واجباً ومسئولية في تنظيم نفسها بشكل يحد من الجرائم والمخالفات والممارسات المُسيئة التي ترتكب عبرها.وإلى أن تنجح تلك المنصات في إقرار قواعد ومدونات مُلزمة للتفاعلات عبرها، وفي تكييف أوضاعها القانونية باعتبارها وسائل إعلام كاملة الأركان، وإلى أن تكف بعض الحكومات عن الرغبة في "إخضاعها" والسيطرة عليها، سنظل نسمع كل يوم عن صدام جديد.