محمد مغربي يكتب: محاكمة «جوجل»

محمد مغربي يكتب: محاكمة «جوجل»
فى مطلع القرن العشرين، كانت شركة «ستاندرد أويل» تحت قيادة جون دى. روكفلر، هى القوة المسيطرة على صناعة النفط العالمية. بعد سلسلة من المحاكمات، أُدينت الشركة بممارسة الاحتكار غير القانونى وتم تقسيمها إلى عدة شركات أصغر فى عام 1911. واليوم، نجد أنفسنا أمام موقف مشابه، ولكن فى سياق مختلف تماماً: الإنترنت ومحركات البحث. الحكم الأخير بإدانة شركة «جوجل» بممارسات احتكارية يذكّرنا بتلك الحقبة، ويُبرز التحديات المستمرة فى تحقيق التوازن بين الابتكار والاحتكار فى عصر التكنولوجيا الرقمية.
على مدى العقدين الماضيين، أصبحت «جوجل» المهيمنة على سوق محركات البحث، حيث تستحوذ على حصة سوقية تتجاوز 90% فى الكثير من البلدان. تمكنت الشركة من تحقيق هذا النجاح بفضل تقنياتها المبتكرة، وخوارزمياتها الذكية، وتجربتها الفريدة. ولكن فى عالم الأعمال، النجاح الكبير يجلب معه أيضاً تدقيقاً قانونياً دقيقاً.
تتلخص الاتهامات الموجّهة إلى «جوجل» فى استغلالها مكانتها السوقية لاحتكار نتائج البحث والإعلانات المرتبطة بها. يقول المدّعون إن «جوجل» تستخدم تكتيكات متنوعة للتأكد من أن منصتها تبقى الخيار الوحيد للمستخدمين، مما يضر بالمنافسين ويُقلل الخيارات المتاحة للمستهلكين. من بين هذه التكتيكات الاتفاقيات الحصرية مع شركات تصنيع الأجهزة والمتصفّحات لجعل «جوجل» محرك البحث الافتراضى، مما يصعّب على المستخدمين تغيير هذا الإعداد.
فى الحكم الأخير، تم إثبات أن ممارسات «جوجل» تتعارض مع قوانين المنافسة العادلة. أُدينت الشركة بإساءة استغلال موقعها المهيمن لمنع المنافسين من النمو والتوسّع، وهو ما يعيد إلى الأذهان ممارسات «ستاندرد أويل» فى الماضى. وأمر القضاء باتخاذ إجراءات تصحيحية تهدف إلى تعزيز المنافسة وفتح المجال أمام مزيد من اللاعبين فى سوق البحث. هذا الحكم يحمل تداعيات واسعة على صناعة التكنولوجيا والمستهلكين على حدٍّ سواء. من الناحية الصناعية، من المتوقع أن يشجّع هذا الحكم ظهور منافسين جدد ويُحفّز الابتكار فى مجالات البحث الرقمى. الشركات الصغيرة والناشئة قد تجد الآن فرصاً أكبر للوصول إلى الجمهور وتقديم خدمات بديلة ومبتكرة.
أما بالنسبة للمستهلكين، فمن المرجّح أن يؤدى هذا الحكم إلى زيادة التنوع فى الخيارات المتاحة. قد نشهد تحسينات فى جودة الخدمة والخصوصية، مع تطلع الشركات المنافسة لتقديم ميزات تميزها عن «جوجل». على المدى البعيد، يمكن أن يؤدى ذلك إلى بيئة إنترنت أكثر تنوعاً وديناميكية. ورغم أن الحكم جاء لصالح تعزيز المنافسة فإن هناك وجهات نظر مختلفة حول مدى تأثير ذلك على الابتكار. البعض يرى أن «جوجل»، بفضل استثماراتها الكبيرة فى البحث والتطوير، قدّمت تقنيات وخدمات غير مسبوقة أسهمت فى تطور الإنترنت، كما نعرفه اليوم. هؤلاء يرون أن التشديد على «جوجل» قد يُحد من قدرتها على الابتكار. من جهة أخرى، يعتقد البعض أن وجود منافسة حقيقية هو المحفّز الأساسى للابتكار. الشركات الكبيرة التى لا تواجه تحديات قوية قد تميل إلى التراخى والاعتماد على مركزها المهيمن بدلاً من تحسين خدماتها بشكل مستمر. الحكم ضد «جوجل» قد يعيد التوازن ويحفّز الابتكار من قِبل جميع اللاعبين فى السوق. كما كان الحال مع «ستاندرد أويل»، فإن الحكم بإدانة «جوجل» يأتى كتذكير بأهمية الحفاظ على بيئة تجارية عادلة ومفتوحة. الابتكار والنجاح التجارى لا ينبغى أن يكونا ذريعة للاحتكار والسيطرة المطلقة. التاريخ يعلمنا أن التنوع والمنافسة هما مفتاح التقدّم والاستدامة فى أى صناعة. ونحن، كمستهلكين، نستفيد فى النهاية من هذه المبادئ التى تُحفّز الشركات على تقديم الأفضل دائماً. الحكم ضد «جوجل» ليس نهاية الطريق، بل بداية لمرحلة جديدة من التحديات والفرص فى عالم التكنولوجيا الرقمية.
ستظل عيون العالم متجهة نحو كيفية تنفيذ هذه الأحكام وتأثيرها الفعلى على السوق، ولكن الأهم أن روح المنافسة العادلة تبقى المحرك الأساسى لتقدمنا جميعاً.