نتنياهو و«برلمان القرود».. قراءة أخيرة

بداية، فإننى قد استعرت العنوان من وصف شهير لـ«مجلس العموم البريطانى» خلده به فنان الشارع الإنجليزى الشهير روبرت بانكسى فى لوحته المعروفة التى ظهرت باسم «برلمان القرود» فى عام 2009، مُستبدلاً أعضاء المجلس من النواب بالقردة، تعبيراً عن رأيه السلبى فيهم، وهى اللوحة التى بيعت عام 2019 بمبلغ 12 مليون دولار فى إحدى قاعات المزادات الشهيرة فى لندن.

وظنى أن الكونجرس الأمريكى بات هو الأحق بهذا الوصف، خاصة بعد أن استقبل مؤخراً (قرداً) حليفاً قادماً من تل أبيب، ورغم جرائمه وإدانته الدولية، وبمنطق القرود تحن إلى أقرانها، تم التعامل معه باعتباره بطلاً، واستقبل باحترام وتصفيق، وتفاعل الحضور مع كلماته المخادعة، وحججه المزيفة، وقصصه المفبركة، وانتصاراته الزائفة، وودّعوه بهز مؤخراتهم الحمراء فى سعادة تُجسّد قمة الانحطاط والهراء.

وبعيداً عن السخرية ومرارتها فى أجواء يجرى فيها تصعيد خطير فى المنطقة على الجبهة اللبنانية، لا تزال تهل علينا أصداء الزيارة الميمونة لرئيس الوزراء الإسرائيلى إلى الولايات المتحدة الأمريكية، التى اضطر بنيامين نتنياهو إلى قطعها عقب حادثة «مجدل شمس»، التى ردّت عليها إسرائيل باغتيال قيادى فى حزب الله. وصاحب تلك الأصداء تحليل وقراءات معمّقة لكل ما يتعلق بالزيارة سواء الخطاب (التاريخى) أمام الكونجرس الأمريكى، أو ما جرى من لقاءات ثنائية مع كبار القادة الأمريكيين (بايدن، ترامب، هاريس)، التى يجتهد بعض المحللين من خلالها فى رسم مسارات مستقبل العلاقة بين الحليفين (الملتصقين) أمريكا وإسرائيل، فى ما بعد انتهاء الحدث الأهم الذى يترقبه سكان العالم فى نوفمبر القادم، بانتخاب الرئيس (47) للولايات المتحدة الأمريكية.

المدهش لى كان رد الفعل فى تل أبيب، حيث أعرب عدد من المسئولين والخبراء عن «قلقهم من أن صورة نتنياهو قد تشوّهت فى الولايات المتحدة، رغم التصفيق الذى صاحب خطابه أمام الكونجرس». وذلك وفق ما ذكر تقرير نشرته صحيفة «الشرق الأوسط» اللندنية قبل أيام، وتطرّق أيضاً إلى رد الفعل فى أمريكا، حيث جاء فيه «أن كثيراً من وسائل الإعلام الأمريكية وشخصيات سياسية بارزة بدأت تتحدّث عن أن أمريكا تعرّضت لخدعة سياسية غير مسبوقة أظهرت قادة الكونجرس كأنهم بلهاء لا يفقهون فى السياسة».

وظنى أن وصف (القردة) الذى استعرته لهم من لوحة بانكسى أكثر موضوعية من (البلهاء) التى نعتهم بها إعلامهم الوطنى. فيما يستحق موقع قناة «الجزيرة» القطرية الإشادة بتقريره المتميز، الذى جاء تحت عنوان: «حفلة التصفيق.. الدلالات النفسية لخطاب نتنياهو فى الكونجرس». وقد تناول بالتحليل كل جوانب الخطاب، لكننى بالطبع توقفت عند تفسيره لإفراط أعضاء الكونجرس (القردة) فى التصفيق، الذى استلزم خضوعهم للتحليل النفسى، وكانت قراءته كالتالى: «فى مشهد يندر أن تراه فى الأروقة الغربية، نشهد تصفيقاً حاراً لخطاب نتنياهو منذ دخوله، وعند كل جملة وعبارة يقولها، وهو مشهد لا يتكرّر كثيراً، والسؤال النفسى هنا: لماذا يقوم الأشخاص بردود فعل لا تتناسب من حيث النوع ولا المقدار مع الموقف الأساسى الذى يحصل أمامهم؟، ويمكن فهم ردة الفعل الهستيرية هذه من خلال حِيَل الدفاع النفسى، حسب التحليل النفسى بصيغته الفرويدية الكلاسيكية، حيث تلعب آليتَا الدفاع النفسى اللتان تسميان بـ«الإزاحة» و«التكوين العكسى للشعور» دوراً جوهرياً فى تفسير هذه السلوكيات، وبهذا المعنى فإن رد الفعل هذا هو آلية دفاعية للحفاظ على التوازن النفسى وتقليل سطوة المشاعر المتضاربة».

إننا أمام مجتمع فقد اتزانه، ونخبة حاكمة تمثله تشعر بالاضطراب والخوف، لهذا كانت المبالغة. وأخيراً، فإن الزيارة كشفت بشكل قاطع أن الدولة الأمريكية التى كانت تمثل الرادع الوحيد لإسرائيل وحكومتها وجيشها، أصبح لا يعول عليها فى التصدى لأىٍّ من حماقات نتنياهو أو إجباره على أى قرار لا يتناسب مع مصالحه، فلا هدنة ولا توقف عن محاولات التحرّش بحزب الله، ولا هدوء فى المنطقة إلا وفق إرادة هذا القرد الإسرائيلى الذى خدع العالم طوال الشهور العشرة الماضية، وفعل ما بدا له.

وأختتم بكلمات موحية كتبها بانكسى عندما بيعت «برلمان القرود»، لوحته الأغلى: «يمكنك أن تضحك الآن، لكن فى يوم من الأيام لن نجد أحداً يتحمّل المسئولية».