أحمد الضبع يكتب: سر عبقرية طه حسين والحكيم

أحمد الضبع يكتب: سر عبقرية طه حسين والحكيم
تعلق كبار الكتاب المصريين بالقراءة التي شكلت وجدانهم وكانت بداية رحلاتهم الفكرية والإبداعية، التي استمرت لتصنع تاريخًا ثقافيًا غنيًا ومتنوعًا في المشهد الأدبي المصري والعربي عمومًا، كانوا جميعًا يرون في القراءة أكثر من مجرد هواية، بل رحلة روحية وفكرية، استكشفوا من خلالها أعماق البشر وتجلياتهم، وأضاءوا نور العقول بإبداعاتهم التي لا تزال تلهم أجيالًا بعد أجيال.
من بين هؤلاء المبدعين الكبار، توفيق الحكيم الذي قال في أحد لقاءاته التلفزيونية، إنه كان في سنوات صباه يجلس إلى جوار والدته التي أجبرها المرض على تمضية الوقت في قراءة قصص «ألف ليلة وليلة» وحكايات «عنترة» و«حمزة البهلوان» و«سيف بن ذي يزن»، وكلما أنهت جزءًا من القصة، تبدأ بسرد ما قرأت متخيَّلة له تفاصيل الأحداث، وعندما يصل السرد إلى نهايته، ينتظر بفارغ الصبر سماع باقي الحكاية في اليوم التالي.
هكذا نمت بذرة حب القراءة وإدمان الحكي في توفيق الحكيم، حتى أصبح يبحث بنفسه عن الكتب والروايات، يقرأها بشغف ويتأمل في أحداثها وشخصياتها، فبالتدريج بدأ يفهم بعض الكلمات وتتعثر عليه الأخرى، بينما يستمتع بالمغامرة الثقافية التي تفتح أمامه أبوابًا جديدة للمعرفة.
عندما التحق بالمدرسة، كان «الحكيم» يستعير الكتب والروايات من المكتبة مقابل اشتراك شهري، ويجلس تحت شجرة أمام منزله، يغوص داخل صفحات الكتب بشغف ليتخيل بانبهار شخصيات الأبطال ويعيش معهم مغامراتهم، إلى أن توسعت مداركه وبدأ يكتشف نفسه وينمي هوايته إلى جانب دراسته في كلية الحقوق.
بعد تخرجه، سافر توفيق الحكيم إلى باريس لاستكمال دراساته العليا، حيث تعمق في دراسة المسرح والموسيقى والأدب، ثمّ عاد إلى مصر محملاً بمعرفة واسعة وآفاق ثقافية متعددة، ليصبح واحدًا من رواد الرواية والكتابة المسرحية في العالم العربي، ويترك بصماته العميقة في المشهد الأدبي والثقافي.
ومن توفيق الحكيم إلى طه حسين، عميد الأدب العربي الذي فقد بصره في سن الرابعة، لكنه قرر مواجهة الظلام بالقراءة وحفظ القرآن الكريم، والاستماع إلى الحكايات الأسطورية كالسيرة الهلالية التي كانت ترويها له شقيقته الصغرى، حتى التحق بالدراسة في الأزهر الشريف في سن التاسعة، وعندما ذهب إلى الجامعة كان يقضي ساعات الصباح في دار الكتب يعكف على قراءة القصص الأدبية والدواوين الشعرية، ثمّ يحضر محاضراته في المساء.
استطاع طه حسين أن يجني ثمار المعرفة مبكرًا، وخلال سنوات دراسته في جامعة الأزهر كان يكتب الشعر والنثر والمقالات في عدة صحف مثل «مصر الفتاة» و«العلم» و«حزب الوطن»، وفي الوقت نفسه كان يبحر في دراسة الأدب والفقه والأصول والبلاغة والنحو، حتى ذاع صيته بين أقرانه، وتلقفه أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد الذي سهل له الطريق للالتحاق بالجامعة المصرية (جامعة القاهرة) لإشباع رغباته في دراسة الآداب، وحصل على أول درجة دكتوراه تمنحها الجامعة في الأدب العربي.
رشحت الجامعة طه حسين للحصول على بعثة إلى فرنسا لنيل الدكتوراه الثانية، لكنه واجه عقبة عدم إتقان اللغة الفرنسية، فما كان من هذا العبقري إلا أن استعان بهواية القراءة التي أحبها واحترفها، وخلال 6 أشهر عاد إلى جامعته متقنًا للفرنسية، واقتنص الفرصة ليدرس في جامعة السوربون، وحصل على الدكتوراه في التاريخ عن رسالة بعنوان «فلسفة ابن خلدون الاجتماعية»، ليعود إلى مصر أستاذًا بكلية الآداب ثم عميدًا لها ثم رئيسًا لجامعة الإسكندرية ثم وزيرًا للمعارف، ويثري الثقافة العربية بأفكاره وكتاباته وأدبه المتفرد، الذي ما زالت الإنسانية تنهل منه.