«الرجل الذي أنقذني».. حكايتي مع كاظم الساهر

إمام أحمد

إمام أحمد

كاتب صحفي

شخصية الإنسان مصيره. هكذا كان يعتقد ويليام شكسبير، الأديب العالمى الكبير. وانطلاقاً من هذه الزاوية أخذ يربط بين شخصياته المسرحية ومصائرها. شخصية «الملك لير» ضحية أبنائه، غير شخصية «الملك ريتشارد الثالث»، الذى أسقط ضحاياه تباعاً من أجل حبه ونزواته. شخصية «الأمير هاملت»، الذى ينتقم من عمه غير شخصية الشاب العاشق التعيس «روميو»، الذى لا يقوى على الانتقام.

لكل شخصية من تلك الشخصيات مصير يليق بها، ومسار يشبهها.

بمقياس شكسبير نفسه، يمكننى تصور أنَّ الشخصية التى تسمع «زيدينى عشقاً» غير الشخصية التى تسمع «الثعبان الأقرع».. والمصير لا بد أن يكون غير المصير.

ربما لو لم أقابل «كاظم الساهر» فى طريقى مبكراً.. لم أكن ما أنا عليه اليوم.

كان كاظم الساهر الرجل الذى أنقذنى فى مرحلة صباى!

إليكم أول الحكاية:

أذكر أننى كنت فى المرحلة الأولى الثانوية، أسير وسط عدد من محلات الملابس، تتداخل الأصوات من حولى حتى وصل إلى أذنى صوتٌ جهورٌ يصدر من شريط كاسيت ويحذّر الناس مما سماه بـ«الثعبان الأقرع».

رغم الزحام، والأصوات المرتفعة، ظل انتباهى مشدوداً إلى ذلك الصوت الذى يأتى من مكان لا أعرفه. لا أذكر كل ما قيل، لكنى أتذكر بعض الصور الترهيبية التى استقرت فى ذهنى حينذاك: الثعبان الأقرع الضخم الذى يضربنا فننزل إلى سابع أرض، ثم نصعد، ثم يضربنا، ثم ننزل، ثم نصعد!.. ثم يُصَب الزيت المغلى على رؤوسنا، ثم تصلينا نار حامية، ثم، ثم، ثم!!

كان صراخ الشيخ مرتفعاً، وكانت الضوضاء من حولى عالية، وكانت الصور فى مخيلتى مخيفة إلى حدٍّ لا أطيقه حينها، ولا أطيقه الآن بمجرد أن أتذكرها!.. عُدت إلى البيت، وبحثت لأيام عن الطريق الذى أنجو به من هذا الثعبان المخيف، وهذه الأدوات التعذيبية التى لا يعرفها بشر.

دلّنى أحدهم على شريط آخر شهير بعبارته الشهيرة الزاعقة: «أنتَ مابتصليش ليه؟».

أغلقت حجرتى، أطفأت النور، وضعت الشريط على الكاسيت، كانت البداية بمؤثرات صوتية عن حادث اصطدام سيارة، ثم سارينة عالية لعربة إسعاف، ثم نبضات قلب مرتفعة، ثم صفير مزعج، ثم يظهر صوت الشيخ، فيكتمل مشهد توتر سينمائى شديد التأثير لا يستطيع المخرج العالمى «كوينتن تارنتينو» أن يرسمه. تحمّلت ما يزيد على الساعة ونصف الساعة. خفت، تأذيت، اهتززت نفسياً، كرهت نفسى، كرهت الحياة كلها، ثم بكيت كثيراً.

ذهبت إلى جهاز الكمبيوتر بشكله القديم الذى كان ينتشر فى البيوت المصرية كلها حينذاك. دخلت على ملف الأغانى، حذفت كل الأغنيات، إلا واحدة: زيدينى عشقاً.

لم أستطع حذفها، لا أعرف لماذا؟. هل لأننى أهديتها إلى حبيبتى الأولى حينذاك؟.. ربما!

هل لأننى كنت أحفظها كلمة كلمة؟.. ربما!

تردّدت أولاً، ثم تمهّلت قليلاً، ثم قلت لنفسى: لا، لن أحذفها.

سأسمعها للمرة الأخيرة. سمعتها، فكأن شيئاً منى قد ضاع، واسترددته الآن.

سمعتها للمرة الثانية، للمرة الثالثة، ردّدت معها:

«زيدينى عشقاً زيدينى

يا أحلى نوبات جنونى

زيدينى غرقاً يا سيدتى

إنَّ البحر ينادينى

زيدينى موتاً؛

علَّ الموت

إذا يقتلنى.. يحينى»

غابت صورة الثعبان الأقرع.. حضرت صورة حبيبتى.. ها أنا أنجو.

سمعتها للمرة العاشرة، لقد كانت أغنية «زيدينى عشقاً» هى المنعطف فى طريقى الذى أخذنى إلى اتجاه كاظم الساهر، بدلاً من اتجاه محمد حسين يعقوب.

امتنعت تماماً عن الاستماع إلى تلك الشرائط المعذِّبة للنفس من بعد ذلك، وواظبت على الاستماع إلى قصائد كاظم الساهر، تلك القصائد المبهجة التى كتبها شاعر الحب نزار قبانى.

لم يكن «كاظم» وشريكه الأكبر «نزار» مجرد اختيار فنى فى حياتى المبكرة، بل كانا اختيار حياة.. تلك الحياة التى نستمتع فيها وبها: نحب، نغنى، نرقص، نلعب، نغضب، نصالح، نأخذ هدنة من الحروب، ونطلق مشاعرنا، فإذا بكينا؛ نبكى شوقاً لا خوفاً من شىء، وإذا فرحنا؛ نفرح حباً لا طمعاً فى شىء.

بعد «كاظم» أحببت الشعر، بعد الشعر أحببت الفلسفة، بعد الفلسفة أحببت السينما، بعد السينما أحببت الكتابة، بعد الكتابة أحببت الصحافة، بعد الصحافة كنت هذا الشخص الذى يكتب هذا المقال.

فشكراً خالصاً لحُسن الحظ الذى نجّانى.

وشكراً خالصاً لكاظم الساهر «طوق النجاة»، ولكل صاحب فن حقيقى هو «طوق نجاة» لأمته.

وأهلاً وسهلاً بقيصر الطرب فى مدينتنا الجديدة.. مدينة «العلمين»