الدكتور أحمد عبدالرحمن الشرقاوى يكتب "أبى"

كتب: د. أحمد عبدالرحمن الشرقاوى

الدكتور أحمد عبدالرحمن الشرقاوى يكتب "أبى"

الدكتور أحمد عبدالرحمن الشرقاوى يكتب "أبى"

تحل ذكراك العطرة فى العاشر من نوفمبر، وكم هو شاق على النفس عسير على القلب أن أحمل قلمى متحدثاً عنك يا والدى الحبيب فى ذكراك الخالدة. فمنذ فاضت روحك الطاهرة تركت لى مهمة استكمال مسيرتك العظيمة، فيا لها من مهمة ويا لها من مسيرة، فيا لوحشة الطريق وقلة الزاد وعناء السفر.. لكم يهفو القلب لتلك القمم التى مضيت على طريقهم مجدِّداً ومعبداً ومعلماً وداعياً ومفجراً طاقات الأمة ومستنفراً لطليعة أبنائها. ولكن دعنى أتحدث قليلاً عن تلك الرسالة التى منحتها حياتك بأسرها.. إنها تتلخص ببساطة فى شرف الكلمة، الكلمة الرائعة المتصدية النبيلة والمقاتلة بلا هوادة للدفاع عن الحق والخير والحرية وأحلام البسطاء الشرفاء فى روعة فجر جديد يسوده الإخاء والعدالة والمساواة والتحرر من قهر قوى الشر والظلام وبطش صناع المآسى والأكاذيب، ولكم اتسع قلبك الكبير لتلك الآلام والآمال وكونت أعمالك الخالدة حضارة أدبية زاهرة أغنت وجدان جيلنا كله ولسوف تستمر بمشيئة الله منارة إشعاع أدبى رفيع فى وجدان أجيال مقبلة تدفعهم فى طريق التقدم وتضىء أمامهم آفاقاً رحبة من تراثنا الإنسانى الزاخر، حتى فى خصومتك كنت عفاً مترفعاً ونبيلاً ممتطياً صهوة جواد الحقيقة وحدها لتطل على قرائك بروعة أبطال الأساطير وجلال الظواهر الخارقة. فيكتور هوجو.. العربى أتذكر ابتسامتك فى تواضع أخاذ حين فزت بجائزة الدولة التقديرية فى أوائل السبعينات وإذ أطلقوا عليك فى «السوربون» حيث تدرّس أعمالك «فيكتور هوجو الأدب العربى» لعطائك الرائد والمتميز فى شتى صنوف العمل الفنى من رواية وقصة قصيرة وقصيدة ومسرح شعرى ومقال أدبى ودراسات وتراجم، فأنت الروائى الرائد الذى كانت روايته «الأرض» هى أول عمل روائى واقعى للريف المصرى وقد بلغت قيمتها حداً جعلها تدرس فى كثير من جامعات العالم كنموذج نابض لنهضة الرواية الواقعية فى مصر. رائد التجديد فى الشعر وأنت الرائد الأول لحركة التجديد فى الشعر على مستوى العالم العربى كله، وفى هذا يقول الشاعر الكبير أحمد عبدالمعطى حجازى: عبدالرحمن الشرقاوى هو رائد حركة التجديد الشعرية فى مصر بلا منازع، بل هو من روادها الأوائل فى الوطن العربى كله.. لقد سبق الشرقاوى صلاح عبدالصبور الذى سبقنى وسبق قبلنا نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، فأوليات قصائده التى خرج فيها عن اللغة الكلاسيكية والرومانتيكية وعن العروض التقليدية تعود إلى منتصف الأربعينات قبل أن يخطر شىء من هذا على بال أحد ممن يدعون السبق. غرست فينا الشوق للعدل والنضال من أجل إقراره منذ طفولتنا وعلمتنا الجهاد من أجل تحرير العقول والإرادات من أى سطوة أو وصاية، والتضحية فى سبيل المبدأ فهذا هو شرف الخصومة، وعلمتنا سمو الحوار واحترام وجهات النظر الأخرى وفضيلة التواضع، هذا ما أنشأتنا عليه بحق، الصدق والبر ومكارم الأخلاق والرحمة والود والعدل والمساواة والشجاعة والكرم وحق الإنسان فى الحرية قولاً وفعلاً وموقفاً، وواجبه المقدس فى ذلك الاقتحام الجسور دفاعاً عن المستضعفين وعن حرية الآخرين، لكم عانيت فى سبيل إقرار كل هذه القيم وكافحت من أجلها. نداؤك الأخير وكان نداؤك ساحر الأصداء ودعوتك التى حملت لواءها فى سنواتك الأخيرة: «عودوا إلى الإسلام الحق تجدوه أكثر تقدماً من كل الفلسفات البشرية»، لكم سهرت الليالى عاكفاً متبتلاً فى محراب الفكر الإسلامى لتزيح عنه الغبار وتحرره من الخرافات والتفاسير المتهافتة، لتؤكد أن رسالة الإسلام كانت فى جوهرها ثورة اجتماعية وإنسانية تنطلق من كلمة لا إله إلا الله لتسقط كل صنوف الاستعباد والعبودية إلا لله وحده سبحانه ليس كمثله شىء، ولتحرر المستضعفين وتهدم كل دساتير القهر الاجتماعى وقوانين التسلط الروحى على رؤوس صناعها، لكم واجهت من عقبات وتحديات وخضت غمار معارك ضارية ماشياً على الأشواك فى دروب محفوفة بالأعاصير مزروعة بالألغام، ولكنك لم تأبه بهذا كله وظللت طوداً شامخاً ملتزماً بقضايا وطنك ومشاكل عصرك، وجاءت رحلتك الأخيرة ونحن نستعد لنقدم لك هدايا عيد ميلادك وقضى الله تعالى أن تفيض روحك الطاهرة فى نفس اليوم وأنت بيننا قبل أن تخبو الشموع. سلام عليك فى الخالدين مع الأبرار والصديقين والشهداء.