ما تبقى من "شتا": بدلة لـ"الخارجية" وشهادات تقدير ووشاح يوم التفوق
ما تبقى من "شتا": بدلة لـ"الخارجية" وشهادات تقدير ووشاح يوم التفوق
تصلى السيدة العجوز بجوار صورته وحين تنتهى: «بصلى هنا عشان أقوله أنا على عهدك، وبصلى ومش بفوت فرض يا عبدالحميد»، تشير "علية" والدة عبد الحميد شتا إلى شهادات التقدير التى يضج بها حائط الغرفة وتحفظ ما بها عن ظهر قلب: «ديه كانت من كلية الاقتصاد وديه من الثانوية العام وديه بعد ما اتخرج».
تدخل «علية» الغرفة المجاورة، تفتح دولاباً خشبياً قديماً، يظهر بداخله وشاح برتقالى اللون ممهور بـ: «كلية الاقتصاد والعلوم السياسية.. يوم التفوق»، الكثير من المجلدات والكتب، وأبحاث كثيرة، ورغم ما مر عليها ولكنها تحتفظ برونقها: «كل شوية بخرجهم وبنضفهم عشان يفضلوا زى ما هما.. حاجة من ريحته».
تصعد «أم سيد» كما يناديها جيرانها الدرج الطينى، متكئة على الحائط الترابى، حتى تصل الطابق الثانى، الذى تظهر فيه العصافير التى حطت موضع الطيور التى كانت تربيها، تتجه نحو باب خشبى قديم تفتح قفله الصدئ، وتدخل الغرفة: «ديه غرفة عبدالحميد»، تمسك ببعض الأكياس الملقاة على الأرض وتفتحها وتخرج ما بها «تى شيرت برتقالى اللون باسم كلية الاقتصاد والعلوم السياسية»، وعلى الحائط معلقة بدلة قديمة وتقول: «اشتراها عشان يروح بيها أول يوم ليه فى الشغل قبل ما يقتلوه»، وفى نهاية الغرفة سرير خشب متهالك ومرآة صغيرة.
تخرج «علية» من الغرفة تستقر على قفص خشبى صغير بجوار باب غرفة الابن الراحل، وتقول إن إيمان نجلها القوى لا يدفع أبداً للانتحار: «مكنش يهون عليه نفسه يموت كافر.. لو كان بيشحت مش هيرمى نفسه فى البحر»، وتستطرد: «اللى كان بيصلى فرض ربنا عمره ما ينتحر»، تتذكر كلماته مع كل صلاة ينادى على أشقائه ويرفض أن يأكل قبل أن يصطحبهم إلى المسجد.
لم يكن عبدالحميد، حسب رواية والدته، يدخر جهداً فى أى عمل، فحين كان يأتى فى إجازة الصيف كان يعمل مع والده «أجرى» فى الحقل، فى تشكيل الطوب اللبن قبل نقله إلى الأفران: «ماكنتش نفسه عالية، كان بيشتغل أى شغلانة تجيب فلوس، يدخل بالبدلة يقوله أبوه تيجى تشيل معايا الطوب يا عبدالحميد؟ يقوله ماشى يابا يقلع ويروح».
تلتقط السيدة العجوز أنفاسها وتستكمل ذكرياتها مع «عبدالحميد»، ووقوفه بجانب شقيقه الأصغر رضا: «كان يشتغل بـ100 جنيه ويبعتهاله، يقوله اتعلم يا رضا عشان عايزين يبقى بينا دكتور»، ولم يخذله «رضا» فظل يتفوق فى كلية الطب حتى سافر لبعثة لدراسة الطب فى ألمانيا.
تحكى «أم سيد» قصته التى بدأت منذ حصوله على مجموع فى الثانوية العام لم يؤهله لدخول كلية الاقتصاد، ولكن لم يفقد الأمل فدخل كلية التربية بجامعة الزقازيق: «ما كانتش عاجباه ومرضاش يروحها» وأعاد الدراسة فى الثانوية حتى حصل على المجموع المناسب، فترك التربية واتجه إلى القاهرة ليدرس ويعيش هناك: «قالى ياما كلية الزقازيق عفشة أنا هسافر أدرس وأعيش فى مصر»، وكان يزور أهله كل يوم خميس ويعود للقاهرة الجمعة ليلاً: «ما كانش بياخد قرش من أبوه، كان يخلص الكلية ويطلع يشتغل فى القاهرة ويبعت كمان فلوس لأخوه اللى فى طب عشان يصرف عليه».
تقول «علية» إن عبدالحميد تخرج واستكمل عمله فى البحث العلمى بالكلية، وحين أعلنت وزارة التجارة الخارجية عن حاجتها لموظفين فى التمثيل التجارى، سارع لتقديم أوراقه، وظل طيلة عام كامل يؤدى امتحانات، حتى تم اختياره ضمن 43 متقدماً فقط لشغل هذه الوظيفة المميزة: «وقبل ما يستلم وظيفته بيومين مات قتلوه اللى أشوف فيهم قدرة ربنا بحق جاه النبى».
اختفى الشاب 3 أيام حتى دق باب المنزل، فتحت السيدة الباب وجدت خفيراً يخبرها برسالة من عمدة القرية: «فيه جدع اسمه عبدالحميد لقوه ميت فى القناطر الخيرية»، ذهب الرجال وأحضروه فى كفنه.