إلى الرئيس السيسى: نعم للقدوة ولا للسجن

حسن أبوطالب

حسن أبوطالب

كاتب صحفي

فى أحد اللقاءات المبكرة التى جمعت الرئيس السيسى، بعد انتخابه بثلاثة أشهر، مع لفيف من الإعلاميين والصحفيين، ذكر أنه حين يتحدث إلى المصريين عن موضوع ما فإنه يريد بذلك أن يخلق «حالة» ليعرف الجميع حجم التحدى وحجم الجهد المطلوب لمواجهته. ما فهمته آنذاك أنه يريد بحديثه عن شىء ما أن يحفز المجتمع وأن يعبئه فى اتجاه معين من أجل إحداث تغيير إيجابى فى منظومة القيم والتحرك السلوكى بشأن قضية معينة، وإذا كان فهمى هذا دقيقاً أو لنقل معقولاً ومناسباً، وحاولنا أن نطبق نفس القياس على حديث الرئيس أثناء افتتاحه للترسانة البحرية بعد الانتهاء من تطويرها، فسوف نجد أنفسنا أمام عملية تعبئة أخرى يقودها الرئيس، وخلاصتها دعوة للعمل الجاد والمخلص ومواجهة الفساد والنهى عن التردد لدى المسئولين، ودعوة إلى الإبداع والابتكار وأن تتحول المؤسسات أو الشركات إلى الكسب بدلاً من الخسارة، وألا يحصل العامل على مرتبه إلا نتيجة عمل. غير أن الرئيس بالغ فى قوله حين دعا المسئول أو القائد ألا يخاف فى اتخاذ القرار، لأنه إن حدث ضرر ووصل الموضوع إلى السجن من أجل خدمة البلد فليخدمه، وأنهى المقارنة بقوله «وهى بلدنا ما تستحقش إننا نتأذى عشانها، أمال الجنود اللى بيدافعوا عنها بأرواحهم دى بيضحوا إزاى؟»، وأعتقد أن هذا الاستطراد حتى وإن استهدف إثارة بسمة بشكل ما أو مفارقة ما، لكنه أعطى مؤشراً سلبياً، فالذين يذهبون إلى السجن يُحمّلون بفضيحة وجُرسة تلتصق بهم العمر كله وما بعد العمر أيضاً، وهؤلاء لا يمكن أن يقارنوا بمن يُضحون بأرواحهم ويُستشهدون فى سبيل الواجب ويصلون إلى المراتب الُعلى فى الدنيا والآخرة معاً، وبالقطع هناك فارق كبير بين أن يكون القائد أو المسئول الكبير إيجابياً ومُطوراً للأداء، وفى الوقت نفسه ملتزماً بالقانون وباللوائح، وإذا كان العيب فى القانون وفى اللوائح فالمسئولية هنا أولاً وأخيراً تقع بالأساس على الذى بيده تغيير تلك اللوائح والقوانين ولكنه لا يفعل، وإذا كان الرئيس قد ربط الدعوة إلى العمل بمواجهة الفساد، فإن أحد أوجه المواجهة هو الالتزام بالقانون وليس خرقه، ولا لوم على مسئول إن التزم بالقانون حرفياً، وفى تجارب ومحاولات لتعديل بعض المواد القانونية التى تضع السيف فوق الرقاب دون وجه حق، لم يتحرك أحد، وكانت العبارة الشهيرة أن الأمور تمت بشفافية تامة والتزام كامل بالقانون، ويعرف الرئيس جيداً أن كثيراً من القوانين معيب تماماً، ولكن الجهد فى إصلاحها غائب تماماً، ويمكن أن نقدم قائمة طويلة عريضة بمثل هذه القوانين التى وضعت فى عقود سابقة ولم تعد مناسبة لخلق بيئة عمل إيجابية ومواكبة للتطورات، ولا يتحرك أحد لتغييرها، كما أن هناك ظرفاً استثنائياً تعيشه مصر منذ أربعة أعوام وكان يتطلب تعطيلاً لبعض المواد القانونية لعدة سنوات مدروسة، أو إرجاء تنفيذها أو تعديل بعض بنودها لإضافة مرونة حقيقية فى بيئة العمل، أو إعادة تفسيرها بما يوفر مرونة نسبية للقائمين على رأس العديد من المؤسسات العامة لمواكبة الظرف الانتقالى الذى تعيشه مصر ويؤثر على منظومة الحياة بأسرها، وهو ما لم يحدث. ولا أتصور أن أحداً مخلصاً فى عمله ويواجه الفساد بما يستطيع وهو قليل قد يتهور إلى حد أن يخالف القانون ليجد نفسه فى قبضة غرفة موحشة ولن يتذكره أحد إلا بصفة غير كريمة. إن استطراد الرئيس على هذا النحو، وإن تناسينا وجوده وتأملنا باقى الحديث فسوف نجد أن جوهره يتطابق مع ما يعرف بالاستراتيجيات الناجحة فى الإدارة بشكل عام، التى يلعب فيها المسئول الكبير دوراً مهماً فى وضع السياسات وتفويض السلطات، وحسن اختيار معاونيه، ووضع البرامج التنفيذية، وتوفير العناصر الأساسية لإتمام العمل، ومتابعة تطبيق تلك البرامج على أرض الواقع، ومن يقرأ كتب الإدارة ويستمتع بها، ويمارس الإدارة فى الواقع يدرك على الفور أن هناك شيئاً مهماً للغاية يؤثر على أداء المنظومة فى المؤسسة المعنية، وأنه مهما كانت المنظومة الإدارية مقننة ومكتوبة بأفضل وأوضح العبارات، فإنها تتأثر بعنصر مهم وهو البيئة الكلية للعمل ذاتها، وهو ما لم يشر إليه الرئيس أو ربما افترض أنه غير موجود، والمقصود بالبيئة الكلية للعمل هى ذلك المزيج من خبرات المؤسسة ككل وتاريخها وسمعتها مقارنة بأقرانها، وخبرات أفرادها كل على حدة، ولوائحها ومواردها المادية والمعنوية، وتواصل الأجيال وتناقل الخبرات، وبرامج التدريب، وأيضاً علاقات القرابة والتداخل الأسرى بين أفراد المؤسسة، ومهما كان القائد فى بيئة عمل تتداخل فيها وتسود اعتبارات القرابة والأسرة مجتهداً ومبدعاً وراغباً فى التطوير، فإنه لا محالة سيواجه بصعوبات شتى، أقلها البطء فى التنفيذ ومروراً بتعمد التأخير ونهاية بإفساد القرار ذاته وتعبئة حملة مضادة، وقد تتطور الأمور أحياناً إلى الصدام مع الإدارة كنوع من إثبات الذات أولاً، ثم تطويق القائد أو المسئول ثانياً، وفرض سياسات ومواقف على الإدارة لمصالح شخصية بقوة الصخب والضرر ثالثاً. وهنا وإذا أردنا أن نطبق المعايير التى دعا إليها الرئيس السيسى الُمشار إليها آنفاً، سنجد أنه يفترض ضمناً أن كل شروط الأداء الإدارى الجيد متوافرة، وأن المسئولية ترتبط بالمسئول الكبير أو القائد وحسب، وبالتالى فإن لم يحارب الفساد فيقع عليه اللوم وتصبح محاسبته واجباً لا مناص منه، وهى صورة مثالية غير قائمة فى الواقع المٌعاش، فنادراً ما نجد مؤسسة تتوافر فيها شروط الأداء الإدارى الجيد، وكما أثبتت الدراسات فإن الفساد بأشكاله ودرجاته المختلفة موجود فى القاعدة والمستويات الوسيطة كما هو موجود فى القمة، وأن محاربته تتطلب ما هو أكثر من القائد القدوة، ومهما كان القائد قدوة وغير متورط فى الفساد ومحارباً له، فلا بد له من مساعدين أكفاء يؤمنون بما يقوم به ويشاركونه المهمة بكل إخلاص، فضلاً عن بيئة عمل مناسبة تتوافر فيها الموارد المالية التى تغنى القائد عن توسل رضاء العاملين يوماً أو يومين قد يتأخر فيهما صرف الأجور. لا بأس أن يدعو الرئيس إلى مواجهة الفساد وأن يُحمس المواطنين للعمل والإنتاج، غير أن المهم أن تكون هناك منظومة شاملة تُعين على التطوير الدائم بلا حبس لمبتكر أو سجن ينهى أى إبداع.