على رأس الشارع حيث أسكن، تنصب سيدة ستينية رقيقة الحال، أقفاص الجريد على هيكل خشبي، تبيع الخبز في الصباح، وفي المساء تبيع «الخُضار»، تُهندم بضاعتها، وتعتني بـ«فرشتها»، وتستقبل الزبائن بدعوات الخير والبركة ووجه «هش بش» لم يسلم من طعنات الزمن.. في الصيف تضع قطعة من الكارتون فوق رأسها لتحجب عنها حر الشمس، وفي الشتاء تضع «كرتونة» كاملة تقيها زخات المطر.. بسيطة هي ومثابرة كأمهات مصر الكادحات، عزيزة النفس، كرامتها فوق كل اعتبار فلا تأخذ إلا مقدار ما تبيع، ولا تقبل على حاجتها المساعدات والمعايدات.
ترفض السيدة الستينية الشكوى، ولا يعرف لسانها إلا الحمد والشكر والدعاء إلى الله أن يديم عليها الصحة والعافية، وأن تعمل حتى آخر أيامها فلا يحجوها الله لأحد.. ربما كانت تلك دعوة الكثير من الأسر رقيقة الحال في الفترة الأخيرة؛ أن يديم الله عليهم الستر، ولا يحجوهم لأحد، وأن يُمتعهم بالصحة والعافية والصبر والحيلة، لمواجهة الأعباء المُلقاة على ظهورهم.
هذه السيدة التي تجاوزت الستين من عمرها، من الفئة التي وصفها الرئيس عبدالفتاح السيسي، في خطابه بمناسبة ذكرى «30 يونيو» بـ«المكافحين الشرفاء»، فوجه حديثه للمصريين قائلًا: «إلى كل رجل مصرى وسيدة يتحملون مشاق الحياة وارتفاع الأسعار، من أجل توفير الحياة الطيبة لأبنائهم، إلى المكافحين الشرفاء من أبناء الشعب على اتساع الوطن، أعلم بشكل كامل حجم المعاناة، وشغلى الشاغل والأولوية القصوى للحكومة الجديدة هو تخفيف تلك المعاناة، وإيجاد مزيد من فرص العمل، وبناء مستقبل أفضل لجميع أبناء مصر الكرام».
وضع الرئيس تخفيف المعاناة عن «المكافحين الشرفاء» وبناء المستقبل، أولوية قصوى للحكومة الجديدة، فجاء تشكيلها منتصرًا للشباب وأصحاب الكفاءات والخبرات، الذين أقسموا أمام الرئيس على رعاية مصالح الشعب، لكن يبقى على كل وزير ومحافظ في موقعه أن يفي بالقسم، ويحول تلك التوجيهات الرئاسية والمحددات التي وضعها إلى برامج وخطط، ويبدأ تنفيذها على أرض الواقع، بشكل يلمسه المواطنون بحق في كل ربوع مصر من حضرها إلى ريفها ومن باديتها إلى ساحلها، خطط تثمر عن انخفاض في الأسعار، وكبح للغلاء، وفرض للرقابة ومواجهة للجشع والاحتكار، وزيادة في الأجور والمعاشات بما يناسب معدلات التضخم السنوية، وتطوير لمظلة الحماية الاجتماعية بحيث لا يضل فيها الدعم طريقه إلى المستحقين، مع استهدافهم بالمشروعات متناهية الصغر.
ننتظر من الحكومة الجديدة خططًا لخفض الدين، وتقليل عجز الموازنة، وبرامج وآليات تسهم في جذب الاستثمارات الأجنبية، وتُشجع القطاع الخاص، وتُوطن الصناعة، وتُوفر المزيد من فرص العمل والتشغيل، وتضاعف أعداد السياح بما يناسب إرثنا الحضاري.. ننتظر منها خططًا لا تكتفي ببناء الإنسان جسمانيًا وصحيًا ونفسيًا وهي أولوية قصوى، ولكن أيضًا تعيد إليه الروح والوعي والفكر، فتهتم بتطوير التعليم، عبر تربية وتدريس حقيقي، في المدارس وليس «السناتر» وبما يؤهل النشء لمواجهة تحديات المجتمع ومتطلبات سوق العمل وتطور العالم، وينهض بأصحاب المواهب والمهارات.. ننتظر برامج للثقافة والتوعية، تُعلي في نفوس الأبناء قيم الولاء والإنتماء للأرض والوطن، ومبادئ التعايش والتسامح والتشارك، وتغرس في قلوبهم تاريخ الأجداد كما تغرس في عقولهم الحلم والأمل في غد أفضل، وتمرن سواعدهم على المواجهة والصمود والتحدي.
كل ما سبق ليس بعيدًا ولا كثيرًا على مصر والمصريين، ليس ضربًا من الخيال والأحلام المطلقة، وإنما قريب بقدر إيماننا به وتخطيطنا له وعملنا عليه.. مصر قادرة على التحدى والحكومة تستطيع اجتياز الأزمة إلى مستقبل كريم للوطن وأبنائه.. فعلى مدار عقد مضى، واجهت بلادنا الأصعب؛ تحديات وجودية، كادت تعصف بالدولة كادت تشطرها شعبين وتشعل في قلبها نار الفتنة، لكنها انتصرت عليها، وأنهت حقبة من الإرهاب والعنف، وأعادت الأمن والاستقرار للمصريين بعد فزع وخوف، والآن بمزيد من التخطيط والعمل، وبتحديد الأولويات، مصر قادرة على اجتياز التحديات وفي القلب منها الأزمة الاقتصادية.