الإعجاز القانوني في القرآن الكريم
القرآن الكريم معجزة الله الخالدة. كيف لا يكون كذلك، وهو المنزل بلفظه ومعناه من عند الله. يقول المولى عز وجل: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا» (سورة النساء: الآية 82). وقد تحدى الله عز وجل البشر -كل البشر- أن يأتوا بمثله. يقول سبحانه: «قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا» (سورة الإسراء: الآية 88).
وقد اتفقت كلمة الفقهاء على أن القرآن لم يعجز الناس عن أن يأتوا بمثله من ناحية واحدة أو من وجه بعينه، وإنما أعجزهم من نواح مختلفة ومن وجوه متعددة، لغوية ومعنوية وروحية، تساندت وتجمعت فأعجزت الناس أن يعارضوه.
واتفقت كلمتهم أيضاً على أن العقول لم تصل حتى الآن إلى إدراك نواحى الإعجاز كلها وحصرها فى وجوه معدودات.
وهكذا، فإنه كلما زاد التدبر فى آى القرآن، وكشف البحث العلمى عن أسرار الكون وسننه، وأظهر مرور السنين عجائب الكائنات الحية وغير الحية، تجلت نواح أخرى من نواحى إعجازه، وقام البرهان على أنه من عند الله عز وجل.
ويشتمل القرآن على ستة آلاف آية، موزعة على مائة وأربع عشرة سورة، بعضها من قصار السور لا يتعدى مجموع آياتها الثلاث آيات، كما هو الشأن فى سورة العصر وسورة الكوثر.
وبعضها من طوال السور، كما هو الشأن فى سورة البقرة، التى يبلغ مجموع آياتها مائتين وست وثمانين آية، وتعد بالتالى أطول سور القرآن. وقد عبر القرآن الكريم عما قصد إلى التعبير عنه بعبارات متنوعة وأساليب شتى، وطرق موضوعات متعددة، اعتقادية وخلقية وتشريعية وعلمية واقتصادية واجتماعية.
وقد تعددت أوجه التفسير للقرآن الكريم، فثمة التفسير اللغوى للقرآن الكريم. ويركز هذا النوع من التفسير على الدلالة اللغوية للألفاظ ودلالات الصيغ، فضلاً عن بعض الأساليب العربية كما درسها المتقدمون من اللغويين، وذلك نظراً لأثرها فى المعنى.
ويمكن أن نجد مثالاً لذلك فى تفسير أبوبكر الرازى وبشكل كبير فى تفسير الشيخ محمد متولى الشعراوى. وثمة التفسير العلمى للقرآن الكريم، ويركز على أوجه الإعجاز العلمى للقرآن الكريم، والإخبار عن أن القرآن قد عرف العديد من الحقائق العلمية التى لم يتمكن العلماء من اكتشافها سوى فى السنوات القليلة الماضية، وبعد أن أخبر عنها القرآن بآلاف السنين.
ولعل أبرز مثال على ذلك يكمن فى تفسير الدكتور زغلول النجار للقرآن الكريم.
وثمة التفسير التاريخى للنصوص، وذلك من خلال التركيز على أسباب النزول والواقعات أو المناسبات التى نزل بشأنها النص القرآنى.
ونعتقد أن الرؤية القانونية للعديد من آيات ونصوص القرآن الكريم يمكن أن تحمل فوائد جمة، وتسهم فى تبيان بعض الجوانب المشرقة فى القرآن الكريم. وللتدليل على ذلك، يكفى أن نشير هنا إلى الآيات القرآنية الواردة فى سورة يوسف بشأن واقعة سرقة صواع الملك.
يقول تعالى: «فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِى رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ* قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ* قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ* قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ* قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ* قَالُوا جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ* فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِى دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ».
وفى تفسير هذه الآيات، ورد فى تفسير القرآن العظيم لابن كثير أنه: «لما اتهمهم أولئك الفتيان بالسرقة، قال لهم إخوة يوسف: «تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِى الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِين»، أى لقد تحققتم وعلمتم منذ عرفتمونا - لأنهم شاهدوا منهم سيرة حسنة - أنا ما جئنا للفساد فى الأرض، وما كنا سارقين، أى ليست سجايانا تقتضى هذه الصفة، فقال لهم الفتيان: (فما جزاؤه) أى السارق، إن كان فيكم (إن كنتم كاذبين) أى شىء يكون عقوبته إن وجدنا فيكم من أخذه؟ قالوا «قَالُوا جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِى رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ».
وهكذا، كانت شريعة إبراهيم أن السارق يدفع إلى المسروق منه. وهذا هو الذى أراد يوسف عليه السلام.
ولهذا بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه، أى فتشها قبله، تورية، ثم استخرجها من وعاء أخيه، فأخذه منهم بحكم اعترافهم والتزامهم وإلزاماً لهم بما يعتقدونه. ولهذا قال تعالى (كذلك كدنا ليوسف). وقوله: (ما كان ليأخذ أخاه فى دين الملك إلا أن يشاء الله)، أى لم يكن له أخذه وفقاً للتشريع السائد والمطبق آنذاك فى مصر.
وإنما قيض الله له أن التزم إخوته بما التزموه، وهو كان يعلم ذلك من شريعتهم. ولهذا مدحه تعالى فقال: (نرفع درجات من نشاء).
وهكذا، لم يكن النبى صلى الله عليه وسلم من المشتغلين بالقانون. ومع ذلك، تخبرنا الآيات عن حكم القانون المطبق بمصر الفرعونية فى شأن العقوبة المقررة لجريمة السرقة فى حقبة زمنية معينة، وهى الحقبة التى عاش فيها نبى الله يوسف عليه السلام.
إذ لم تكن العقوبة المقررة فى هذا القانون هى استرقاق السارق بواسطة المجنى عليه، وإنما تم توقيع هذا العقاب على إخوة يوسف، أخذاً لهم بما التزموا به من حكم شريعتهم.
وهكذا، يقوم الدليل من جديد على وجه آخر من وجوه الإعجاز فى القرآن الكريم، وهو الإعجاز القانونى. وبهذه المناسبة، نرى من الملائم توجيه الدعوة إلى رجال القانون لإيلاء الاهتمام الواجب بمختلف جوانب الإعجاز القانونى فى القرآن الكريم.