ضمور معسكر السلام في إسرائيل (1)
فى يناير عام (1997) شهدت العاصمة الدانماركية «كوبنهاجن» المؤتمر الموسّع للعمل من أجل السلام فى الشرق الأوسط، وشارك فى المؤتمر الذى تم تحت رعاية الاتحاد الأوروبى، وفود من مصر وإسرائيل والأردن وفلسطين والاتحاد الأوروبى، وانتهى المؤتمر إلى إصدار «إعلان كوبنهاجن» و«التحالف الدولى من أجل السلام»، وكانت هذه المرة الأولى التى يتم فيها الإعلان عن مثل هذا التحالف الشعبى فى تاريخ الصراع العربى - الإسرائيلى.
وترتبت على الإعلان ردود فعل ثقافية واسعة -على الجانب العربى- تراوحت بين أغلبية مُندّدة ورافضة لفكرة الحوار مع إسرائيليين، وأقلية مؤيّدة ومحبّذة لعقد مثل تلك الحوارات.
وكان صوت جبهة الرفض هو الأعلى والأقوى، ولم يكن مقتصراً على مجرد أفراد، سواء كانوا سياسيين أو مثقفين، أو ممن يتم وصفهم بـ«قادة الرأى العام»، لكنها ضمّت مؤسسات ونقابات وأحزاباً وقوى سياسية، مثل اتحاد كتاب مصر، والاتحاد العام للفنانين العرب، ونقابة الصحفيين، وحزب التجمع، واتحاد كتاب آسيا وأفريقيا.
وصدرت وثيقة وقّعها مئات المثقفين المصريين والعرب، ممن يحتلون مواقع مرموقة فى مجالات السياسة والفكر والأدب والفن، ضد «إعلان كوبنهاجن»، الذى لا يمثل -كما ادّعى مؤيدوه- الإرادة الشعبية الواسعة، فيما تؤكد كل الشواهد أن معارضى «الإعلان» هم الذين يمثلون هذه الإرادة.
وكان الكاتب السياسى الراحل محمد سيد أحمد من أهم المؤيدين لمبدأ الحوار العربى - الإسرائيلى، لكنه رأى أن هذه القفزة من المقاطعة إلى «التحالف من أجل السلام» لا يمكن أن تخدم السلام، لكنها ستُسبب مردوداً عكسياً، سينتهى إلى تعميق الانقسام فى الصف العربى فقط.
والتقيت آنذاك الكاتب الكبير الراحل لطفى الخولى، أحد أبرز أعضاء الوفد المصرى المشاركين فى «مؤتمر كوبنهاجن»، وطرحت عليه ما يوجهه من هجوم داخل مصر بشكل خاص، وفى كل الدول العربية بشكل عام، واتهامه من المثقفين والسياسيين بأنه يقود قطار التطبيع الشعبى مع العدو الإسرائيلى.
وأوضح «الخولى» أن الاتهام فى غير موضعه، ويكشف عما وصفه بـ«القصور السياسى»، وقال إن ما يقوم به ليس تطبيعاً، لكنه جهد سياسى، قد يؤدى فى النهاية إما إلى السلام العادل الذى يضمن عودة الحق العربى، وإما الحرب إذا استمر العدو الإسرائيلى (حسب وصفه) فى تطبيق سياسة الاستيطان، والفصل العنصرى فى الأراضى الفلسطينية المحتلة.
وكما حدث على الجانب العربى، تباينت ردود الفعل أيضاً فى الداخل الإسرائيلى، وبرز الصراع بين قوى اليمين المتطرّف الرافضة لأى مبادرات سلمية لإنهاء الصراع مع العرب، ومجموعات من الحركات الشعبية التى كانت تتصدّرها حركة «السلام الآن»، وحركة «توجد حدود»، وجمعيات أهلية مثل «بتسليم»، و«بمكوم»، وغيرهما، بالإضافة إلى أصوات أخرى داخل الأحزاب التى كشفت عن مالها السياسى لتبنى الحل السلمى، مثل حزب العمل، وحزب «ميرتس»، وحتى أحزاب الوسط على الخريطة السياسية مثل حزب «الطريق الثالث»، وحزب «أزرق - أبيض» وغيرها.
وبعد أكثر من ربع قرن تطور خلالها الصراع الذى وصل إلى ذروته فى ما يشهده العالم كله، من عدوان همجى إسرائيلى على غزة، ورفض قوى اليمين المتطرف لأى مبادرات لوقف هذا العدوان، وفى المقابل أصاب الضمور معسكر السلام الإسرائيلى، واختفى نشاطه تماماً على الصعيدين الرسمى والشعبى، وللحديث بقية.