ناقل الخبر اليقين ورسالة من رفح

خديجة حمودة

خديجة حمودة

كاتب صحفي

وسط أصوات الطيور الصغيرة التى تغنى وتحلق فى السماء وتقدم هدايا للإناث فى دعوة صريحة لبناء أعشاش جديدة لاستقبال صغار، ظهر هذا الطائر الجميل بألوانه البديعة ورأسه الذى يعلوه التاج، وبدأ فى الهدهدة فكان لزاماً علينا أن نستمع وننصت إليه.

فالهدهد هو ناقل الخبر اليقين، وله دلالات رمزية، حتى أصبح ظهوره موروثاً ثقافياً، فهو مبعوث النبى سليمان إلى مملكة سبأ، ورد ذكره فى القرآن الكريم فى مقام واحد فقط، لكنه ذو مقام استثنائى رفع فيه إلى ما فوق سائر الطيور، حيث ورد ذكره فى مسار تبليغ رسالة التوحيد فى رحلته الأولى إلى قوم سبأ، فكان سبباً فى خروجهم من ضلال عبادة الشمس إلى عبادة الله تعالى. ويضرب العرب المثل بقوة إبصاره فيقولون (أبصر من هدهد)، وقال عنه الجاحظ إنه هو الذى كان يدل سليمان على مواضع الماء فى باطن الأرض.

وإذا كان هذا الطائر الجميل قد لعب دوراً كبيراً فى ثقافات الشعوب، كما أن له تاريخاً كبيراً على مر الأزمان، خاصة فى الأدب والفلكلور الشعبى فى منطقتنا، إذ ظل سائداً لفترات طويلة بعض الأفكار والمعتقدات التى ترى أن طائر الهدهد يمتلك خصائص سحرية قوية فهو طائر مقدّس فى مصر القديمة. وقد وصل الهدهد إلى سماء مصر، حاملاً رسالة من رفح، رسالة مفادها أن تلك الطيور التى هدمت القذائف أعشاشها وأشعلت النيران فى الأشجار التى عاشوا وسط أغصانها يرفضون الرحيل ويحاولون جمع ما تبقى من فروع شجر جفت من نُدرة الماء لبناء أعشاش جديدة تحتمى فيها الصغار، وينقرون الأرض بحثاً عن مصادر المياه، ليشرب منها أهل رفح ويستأنفون مظاهر الحياة، طيور الهدهد أطلقت تلك الرائحة الكريهة من ذيلها، وهى الخاصية التى منحها الله لها لتحمى بها نفسها وصغارها من الحيوانات المفترسة.

وفى مدينة لندن فى البارك كالرى أقامت (هناء مال الله) الفنانة العراقية معرضاً فنياً للوحاتها التى استضافت فيها الهدهد تحت عنوان (تيمة الخراب)، واعتبرته نجم المعرض، فهو صاحب الأسرار العطرة، وهو الذى يحكى من لوحة إلى أخرى قصة ما حدث فى العراق والخراب الذى أصابه ودموع العراقيين. وها قد جاء إلينا حاملاً رسالة أهل رفح الذين يتشبثون بالأرض ويقاومون بضراوة وشراسة تنافس الأسلحة الفتاكة التى تطيح بالقانون الدولى والمعاهدات ونتائج مؤتمرات القمة ومؤتمرات السلام العالمى. جاء ليضم صورة جديدة، ليُذكرنا بأن تلك الحرب التى بدأت وتزامنت مع الذكرى الـ٥٠ لحرب أكتوبر كانت نتيجة طبيعية لما يعانيه أهل فلسطين من حصار مفروض على قطاع غزة، وتدنيس المسجد الأقصى، حملت الرسالة صورة من ذلك التقرير الذى أصدرته لجنة حماية الصحفيين، ووقّعه ٥٩ من مديرى المؤسسات الإخبارية، التى تُؤكد مقتل ما لا يقل عن ٩٤ صحفياً، منهم ٨٩ فلسطينياً، قتلتهم إسرائيل، وفى رسالة الهدهد ناشدت وكالات الإغاثة الدولية مجلس الأمن أن يمد لها يد العون بسبب تلك العراقيل التى تواجه تسليم الإمدادات الإنسانية من الجانب الإسرائيلى، الذى لم يكتفِ بذلك، بل قام بقصف الأبرياء الذين ينتظرون الحصول على الطعام لأطفالهم.

وفى هدهدة ذلك الطائر الجميل قال إن الفلسطينيين، خاصة أهالى رفح الذين يرفضون التهجير سعداء بتلك التظاهرات والمسيرات الحاشدة فى الكثير من عواصم ومدن أوروبا واعتصامات الطلاب فى الجامعات الأمريكية، والقرارات التى اتخذت بأغلبية كبيرة من طرف الجمعية العامة للأمم المتحدة مطالبة بوقف الحرب على غزة، والتى تعبّر عن تحول ملموس إزاء الموقف من فلسطين، وينتظرون المزيد من دعم الصغار والشباب أصحاب الصوت الأقوى المسموع، فربما كان أحد أسباب انقشاع هذه الغمة عن أجمل بقاع الأرض، وفى نهاية رسالته بكى الهدهد الذى قيل عنه إنه من أرق الطيور مشاعر، وإنه يبكى رفيقة حياته إن رحلت ولا يتزوج غيرها فى وفاء نادر لم تعرفه مملكة الطيور إلا عنده، انزلقت دموعه وهو يذكّرنا أن أعداداً كبيرة من الأطقم الطبية استُشهدت فى تلك الحرب وهم يمدون أيديهم لإسعاف الجرحى وتخفيف آلامهم، فلننشر هذه الرسالة وندعو الله.