الأب بطرس دانيال يكتب: الصداقة الحقيقية.. مِنحة إلهية  

«الصديق الأمين لا يُعادله شىءٌ، وقيمته لا يُقَدّر لها ثمن» (يشوع بن سيراخ 15: 6). ذات يوم، قال الظل للإنسان: «أنا صديقك الوفى الذى يلازمك نهاراً وليلاً، أُسرِع إليك وأتقدمُ أمامك لأفسح لك الطريق، وعند الظهيرة أجلس عند قدميك، وحين تغرب الشمس أتبعك خطوةً بخطوةٍ إلى حيث تمضى».

فسأله الإنسان: «أين تكون يا صديقى الوفى حين لا يكون هناك شمسٌ ولا قمر؟» فصمت الظل من وقته، فاستطرد الإنسان قائلاً: «إن الصديق الوفى هو الذى يظهر حينما تظلَم الدنيا ويُسرع ليؤنس صديقه ويقف بجانبه حتى ينبثق النهار فيودّعه ويختفى».

مَن منّا لم يختبر معنى الصداقة سواء الحقيقية أو المزيّفة؟ هل نستطيع أن نتخيّل إنساناً يريد أن يعيش وحيداً دون رفيق أو صديق؟ فالصداقة الحقيقية هى الواحة الخضراء وسط صحراء الحياة، نحن نعلم جميعاً بأن الحصول على صديقٍ حقيقى ليس بالأمر الهين، وكما نقرأ فى يشوع بن سيراخ: «فهناك الصديق فى يومه، والذى لا يثبت فى يوم ضيقك» (8: 5). لكن الصداقة الحقيقية فضيلة ضرورية جداً للحياة، ولا يختار أحدٌ منّا أن يحيا دون أصدقاء، حتى لو ملك كنوز الدنيا، والصداقة الحقّة أن نبحث عن الصديق ومعه الأرض المجهولة فى داخله، أى نكتشف الثروات والكنوز الموجودة فى أعماقه، ونستطيع أن نتخيل ونُخَمّن كل ما هو جميل فيه عن طريق الحوار والاتحاد معه، لنتعلّم أن نصبح أصدقاءً للناس وسنكون بذلك أصدقاءً لله أيضاً.

ويقول الفيلسوف Arthur Schopenhauer: «مِن الأفضل أن نُخْدَع فى حساباتنا مع الأصدقاء عن أن نخدعهم»، ومما لا شك فيه أن كل واحدٍ منّا ذاق التجربة المريرة لأصدقاء مزيّفين كانت صداقاتهم مبنيّة على حسابات أنانية ومصالح شخصية، لذلك من الأفضل أن نكون ضحايا خيانة الأصدقاء، عن أن نصبح نحن الخائنين، ومن المقبول أن ننخَدِع فى صداقاتنا ولكن لا نخدَع أى صديق لنا.

والكاتب الأيرلندى Oscar Wilde يحسبها بطريقةٍ أخرى قائلاً: «تستطيع الغالبية العُظمى منّا أن تتقاسم وتشارك فى آلام الصديق، ولكن نادراً ما نجد شخصاً مستعداً لأن يسعد ويفرح بنجاح الصديق»، هذا واقع نختبره فى حياتنا اليومية، لأنه من السهل أن نُعزّى ونواسى أصدقاءنا ونحزن معهم عندما يمرّون بأزماتٍ نفسيةٍ وصحيّة أو مشاكل أو فشل يهدد مصالحهم، ولكن من الصعب أن نسعد حقاً بنجاحهم وتفوّقهم وحظّهم السعيد، لأن نار الحقد والأنانية أقوى من أى طاقة بشرية، فنادراً ما نجد الإنسان الذى يتقاسم نجاح وتقدّم أصدقائه فى كل شىء، كما أنه يشجّعهم على الاستمرار بخطواتٍ ثابتة، ليصبحوا أفضل منه، بينما الوالدان هما الوحيدان اللذان يفضلان أبناءهما عنهما فى كل شىء.

فالصداقة الحقيقية هى كقطرات الندى التى تتوق إليها الزهور فى الفجر لتنتعش بها، وكمائدة المحبة التى يُسرع إليها الجائع فيجد فيها قُوتَه وغذاءه، ما أصدق هذه الكلمات التى خرجت من قلب الشاعر الصينى Ai Qing (1910 - 1996): «عندما أستيقظُ فى الصباح مبكراً، أبدأ فى الغناء كالعصفور على الشجرة، وكل هذه الألحان تُعبر عن سعادتى التى لا مثيل لها.

لماذا أنا سعيد هكذا؟، وأُنشدُ وأشدو وأُغنّى دون توقف؟ ليس لدىّ أى مبرر آخر غير أن صديقاً لى سيصل من بعيد»، هنا يصف لنا سعادة الصداقة الحقيقية، ويُعبر عنها بروح الطفولة البريئة، فالصداقة الحقيقية المبنيّة على التضحية والحُب الحقيقى وعدم المصلحة، هى عطية لا يستطيع أن يفهمها أو يقدّرها الإنسان الذى يبحث عن امتيازات وخدمات، ولكن هؤلاء الذين اتحدوا معاً بدون أى مصالح، ليس لديهم مبرر لانفصالهم عن بعضهم. نحن نعلمُ أن الصداقة البشرية هشّة، ومن السهل جرحها أو تمزيقها، ففى هذه الحالة يلجأ الإنسان إلى الموسيقى والطبيعة ووسائل أخرى ليعوّض بها عن خيانة الأصدقاء، لأن الصداقة القلبية تنمو ببطء، بينما العداء السافر قد يولد فى لحظة.

واكتشاف صديق حقاً ليس بالأمر الهين، لأن أصدقاء هذا الزمان طيور جميلة، يهجرونك حينما تذبل أوراق سعادتك، كما أن الحفاظ على الصداقة الحقيقية أمرٌ أشد صعوبة، لأنها عطيةٌ وحُبٌ وتضحيةٌ وشجاعةٌ وشهامةٌ، فالعالم بدون أصدقاء، صحراء قاحلة. كل شخصٍ منّا بحاجة إلى صديق وإذا فقده، أو انخدع فيه سيعانى أشد الآلام، لأن الصديق الحقيقى والوفى يظل بجوارك مهما تخلى عنك كل الناس، ويحبك لذاتك لا لمركزك أو لأموالك. ونختم بالقول المأثور: «مَنْ طلبَ صديقاً بلا عيوب، عاش وحيداً».