حصاد القمح
نعيش هذه الأيام موسم حصاد القمح، وليس أجمل من هذا الموسم في الريف، فحصاد القمح يعقبه الخير الذي يملأ البيوت وخلاله يفرح الجميع خاصة الأطفال والصبية، الذين ينعمون ببعض هذا الخير في صورة هدايا متنوعة، أو كان الأمر هكذا عندما كنت في صباي بقريتنا الحاجر بسوهاج.
كان المصريون ينتظرون ويحتفون بموسمي جني القطن، وهو الوقت الذي يدخل عليهم الرزق الوفير ويترقبونه لأجل أن يوفوا باحتياجاتهم المالية، فمن أراد تجهيز ابنه أو ابنته للزواج عليه أن ينتظر موسم جني القطن، ومن أراد أن يسدد مصروفات التعليم لأبنائه في الداخل أو الخارج انتظر جني القطن. كان المزارعون والملاك ينتظرونه لأنهم سيبيعون محصولهم، وكان الصبية من الفتيان والفتيات ينتظرونه لأنهم يشاركون في جني المحصول وجني بعض النقود أيضا تساعدهم على مشاق الحياة.
أما القمح فهو الدقيق الذي يتحول إلى خبز، وعندما يتم الحصاد يجمع في الصوامع التي لا يخلو منها بيت ريفي، وهو مؤونة التي يرتاح كل عائل لتوفرها والتي تجعله ينفض عن كاهله هم الحصول على رغيف الخبز طوال العام في انتظار محصول العام القادم.
كان موسم الحصاد بالنسبة لي من أجمل الأيام في حرارة شمس الصعيد، التي كنت أتحملها مقابل أن أركب "النورج". كان النورج متعة حياتي وحياة أطفال وصبية الصعيد الجافة الخالية من أي متع أو ترفيه. كان النورج عبارة عن ثلاث اسطوانات خشبية تضم كل منها ثلاث اسطوانات مسطحة حادة تعمل كشفرات، ويتم تركيب الاسطوانات متينة الصنع في قائمين خشبيين يحكمان ثباتهما وفوق كل ذلك مقعد عريض يتسع لشخصين.
يدور النورج في دائرة تتسع بقدر يتناسب مع حركة البقرة التي تجر النورج ويلقى بالقمح تحته لكي "يدرسه" وعلى مدى آلاف الدورات للنورج والعديد من الأيام وربما الأسابيع تنفصل حبات القمح عن عيدانه التي تتحول إلى تبن تأكله المواشي. كان ركوب النورج وقيادته متعة خالصة لي. وكنا نبادل "كتاية القمح" أو حزمة القمح "بالخلعة" أو قطع الحلوى البسيطة التي كان الباعة يتجولون لبيعها خلال موسم الحصاد ونعتبرها أحلى الحلويات.
النورج اختراع مصري قديم انتهى أمره وعصره بعد انتشار آلات الحصاد المميكنة والتي بإمكانها في ساعات "درس" محصول عشرات الأفدنة بدون نورج أو بقرة أو صبي صغير يقودهما. والآن تزرع جهات حكومية ملايين الأفدنة من القمح وتحصدها بدون أن يكون هناك نورج يركبه صبية وإنما توجد آلات عملاقة تحصد بسرعة كبيرة محصول تلك الملايين من الأفدنة وتفصل بين حبات القمح وعيدانه التي تتحول إلى علف للحيوان.