رددت مؤخراً هذه العبارة (العنوان) فى العديد من اللقاءات التليفزيونية للتعبير عن صعوبة الموقف المصرى المنحاز دائماً لأهالينا فى قطاع غزة والباحث عن «بارقة أمل» فى الطريق شديد الظلمة الذى أجبرت عليه قضية الشعب الفلسطينى البطل منذ السابع من أكتوبر الماضى.
كنت أنطقها بعفوية وصدق فى كل المرات مع بدء جولة جديدة من المفاوضات الشاقة التى كانت ترعاها مصر ومعها قطر والولايات المتحدة وأحياناً فرنسا بهدف إقرار هدنة مؤقتة فى القطاع، تمنح أهله فرصة لالتقاط الأنفاس ووصول المساعدات الإنسانية.
وتوقف القصف الإسرائيلى الوحشى والمستمر بجنون منذ «طوفان الأقصى» والذى راح ضحيته أكثر من 33 ألف شهيد، وأضعاف هذا الرقم من الجرحى والمصابين، وكنت أزيد بأن مصر لا تملك رفاهية اليأس لهذا فصبرها لا ينفد، ومع نهاية كل جولة دون نتيجة إيجابية، كانت الدبلوماسية المصرية تبحث عن بارقة أخرى تعيد بها طرفى الصراع إلى مائدة التفاوض، وغالباً ما كانت تنجح.
لم أكن أتخيل أن (مطاردة بصيص النور) ستظلل أيامى الأخيرة من شهر رمضان المنقضى، بعد أن فاجأنى نزيف داخلى فى العين اليمنى وانفصال حاد فى الشبكية وفق التشخيص الطبى الدقيق.
وكان حتمياً إجراء جراحة عاجلة. لم تمنحنى المفاجأة الفرصة الكافية للتدقيق والتفكير وتحرى البدائل والحلول، خاصة وإجازة عيد الفطر تداهمنا خلال ساعات وتغلق معها كل أبواب الأمل فى إنقاذ هذه العين.
فجميع المراكز الطبية المتخصصة فى مثل هذا النوع من الجراحات الخطرة والعاجلة تغلق أبوابها خلال هذه الإجازات، وحكى لى أصدقاء عن معاناتهم مع ذويهم عند إصابة أحدهم بأى مشكلة مشابهة فى العين خلال الإجازات الطويلة، وهو أمر أتمنى أن تتداركه الدولة ووزارة الصحة، ليس فقط فى مجال طب العيون، فالنقص يكون ملحوظاً فى معظم الخدمات الطبية خلال إجازات الأعياد، وهذه مسألة تستحق الاهتمام والرعاية.
وأعود لعينى اليمنى التى أصيبت بالعمى الكامل وبات الأمر ضاغطاً لسرعة اتخاذ القرار، لكن الطبيب أربكنى بأنه من المعتاد أن تفشل العملية ويتكرر إجراؤها أكثر من مرة، تحريت الأمر من مرضى (زملاء) كانت تزدحم بهم عيادته، ووجدت بينهم من حضر ليجريها للمرة الثانية أو الثالثة.
خرجت إلى الشارع وقد عقدت العزم أن أتقبل أمر الله، وأرضى بأن أكمل حياتى بعين واحدة، فلا طاقة لى بتكاليف ومشقة العملية وتكرارها، خاصة وهى فى الأصل عين ضعيفة منذ ميلادى ووصلت فى السنوات الأخيرة إلى حالة كسل تام، وكان أعظم إنجاز حدث لها فى العام الأخير بعد إجراء عملية «المياه البيضاء»، أنها أصبحت ترى بصعوبة العلامة الكبرى فى لوحة كشف النظر عند طبيب العيون.
ثار كل من حولى رافضين قرارى، وتطوع البعض لمناقشتى موضحين أنه حال عدم إجراء الجراحة، فسيحدث ضمور تام للعين، وربما يتقلص حجمها، كنت أصرخ فى محدثى غاضباً ومتسائلاً، من أجل ماذا أتحمل؟، من أجل مجرد «بصيص نور»؟ ربما يعود وربما لا؟!
ومن لطف الله ورحمته بنا أن يُسخر لنا فى الأزمات «حكيماً»، يأخذ بيدنا إلى الطريق، وكان حكيمى هو صديق الطفولة والصبا، استشارى جراحة العيون والأستاذ بكلية طب جامعة عين شمس، الدكتور محمد جميل، الذى حاورنى بمنطقه الطبى وأنه يتعامل مع مرضاه وفق هذا المنهج، والذى يلخصه المثل الدارج: «بصيص العين ولا عماها»، وهو يتماهى مع عبارتى (العنوان)، التى كانت أيضاً منطقى وفلسفة حياتى، فما زلت حتى اليوم أطارد «بصيص النور» فى كل دروب الحياة، أعمتنى اللحظة القاسية وأنار بصيرتى صديق العمر، حفظه الله.
قضيت الليلة وكانت درة الليالى العشر الأخيرة من رمضان، قضيتها مع الله، بين الصلاة والقرآن والتسبيح، وصباح يوم الأحد الموافق 28 رمضان حسمت موقفى وتوكلت على الكريم، وتوجهت إلى أحد المراكز الطبية المتخصصة فى جراحات العيون، حيث أجرى لى الجراحة، الطبيب الخلوق والجراح الماهر الدكتور أحمد حبيب، استشارى الشبكية والجسم الزجاجى، والذى اطمأن فى اليوم التالى على عينى بعد الجراحة، وأتابع معه خلال هذه الأيام استقرار الحالة وعدم حدوث أى مضاعفات، استعداداً لإجراء الجزء الثانى من العملية.
الحمد لله الذى أتم علىَّ فضله، وأعاد لى بعضاً من «بصيص النور» الغالى الذى كنت أجهل قيمته فى هذه العين اليمنى إلى أن فقدته، فأدركت أن العيش من دونه يعنى فقدان الأمل، والموت. ولا أجد ختاماً أجمل من قول منسوب إلى سيدنا على بن أبى طالب، كرم الله وجهه، يتسق مع مغزى مقالى: «أنا رجل أحيا بالأمل، إن تحقق فبفضل الله، وإن لم يتحقق فقد عشت به زمناً».