قتل في المولد النبوي!
فى الحلقات السابقة تناولنا أحداثاً جساماً هزت فى وقتها مصر كلها وربما الوطن العربى كله.. فلأول مرة تعرف بلادنا الاغتيال السياسى على هذا النحو الذى بلغ رجال القضاء ورؤساء الحكومات داخل مقرات حكمهم!
مهندس شاب بالجماعة الإرهابية كان أحد أبرز أسماء قيادات الجهاز الخاص المسئول عن كل ذلك.. شاءت الظروف أن يتولى هذا العمل المجرم.. كان مقرَّباً من رئيس التنظيم عبدالرحمن السندى واختاره مسئولاً عن محافظة القاهرة وبالتالى العمليات بها.. كان اسمه السيد فايز!
تمر الأيام ويُقتل حسن البنا.. الذى اتهم الإخوان خصومهم بقتله، وأشاعوا الأساطير حول الواقعة.. وكيف قاوم قاتليه وكيف زاره الملك وبصق عليه وأمر بعدم إسعافه وكيف دُقت أجراس الكنائس فى الولايات المتحدة فرحاً بمقتله!
وفى الحلقة الماضية ناقشنا كيف جاءت الآراء متأخرة حول مسئولية الجماعة وتنظيمها الخاص تحديداً بقتله بعد أن تسربت الأنباء عن صفقة وشيكة بين البنا والحكومة يسلم بمقتضاها كل تفاصيل الجهاز السرى وبياناته إلى وزارة الداخلية مقابل تخفيف الضغط عن الجماعة والإفراج عن رفاق البنا وتركه هو دون عقاب وإنهاء الرقابة اللصيقة به!
مات البنا وجاء حسن الهضيبى مرشداً.. وكأى مؤسسة أو حتى كأى جماعة بشرية يُجرى من يتولاها تغييرات فى القيادة يأتى بمقتضاها برجاله.. وهو ما فعله الهضيبى الذى بدأ بعزل عبدالرحمن السندى عن قيادة التنظيم السرى وجاء بصديق السندى السيد فايز الذى وافق على التكليف على الفور!!
نروى القصة، باختصار شديد، نظراً للتكثيف غير المخل فى هذه السلسلة، ولذلك نقفز إلى رفض عبدالرحمن السندى قرار عزله وقرار تعيين أحد مساعديه لقيادة التنظيم الخاص السرى! ولأنها جماعة إرهابية مجرمة كانت تجمعاً لسفاحين، ولأن الجماعة لم تعرف الحوار والديمقراطية بداخلها قط، قرر السندى التمرد وقرر أيضاً التخلُّص من فايز!
وكل ذلك يمكن تصوره.. فى إطار الفهم للجماعة وأخلاقياتها، لكن الذى لم يصل إلى خيالنا هو طريقة القتل ونتائجه، والذى لم يعمل له السندى أى حساب!
ففى الثانى عشر من شهر ربيع الأول عام 1373 هجرياً، والجميع يعرف أن هذا اليوم هو يوم المولد النبوى، الذى وافق وقتها 19 نوفمبر 1953، توجه أحد الأشخاص زعم أن اسمه «كمال القزاز» إلى منزل السيد فايز فى العباسية يحمل صندوقاً كرتونياً بعلامات حلوى المولد، فتحت له شقيقة السيد فايز واسمها «سيدة»، أعطاها العلبة وطلب منها أن لا تفتحها إلا بعد حضور شقيقها، وبعد عودة السيد فايز عصراً سلمته أخته الصندوق وعند فتحه انفجرت العلبة الملغمة التى سقط على أثرها السيد فايز ميتاً وكذلك شقيقه الأصغر، وأصيب كل من بالمنزل، ومن قوة الانفجار سقطت بلكونة الغرفة على طفلة صغيرة كانت تلعب بالشارع فقتلتها!
قيادات الجماعة شاركت فى الجنازة واتهمت عدو الإخوان الأول جمال عبدالناصر.. وروّجت الاتهام حتى مرت عشرات السنوات ليقول الحقيقة عن أحداث العنف صلاح شادى فى كتابه «حصاد العمر» ومحمود عساف مستشار حسن البنا فى كتابه «مع الإمام الشهيد حسن البنا»، ومحمود عبدالحليم بكتابيه «الإخوان المسلمون فى الميزان» و«الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ» وأحمد عادل كمال فى كتابه الذى أشرنا إليه مراراً «النقط فوق الحروف» والشيخان السيد سابق ومحمد الغزالى والأول استندنا إلى اعترافه المتأخر أيضاً بقتل أحمد ماهر باشا.
ولكن نتوقف عند الشهادة التالية لصلاح شادى فى كتاب «حصاد العمر» فى صفحة 72 حرفياً: «ولا يجب أن يغيب عنا بعد ذلك آثار هذه الانحرافات فى نفس السندى بما أنذرته بعد ذلك من استخفافه بواجب الطاعة لمرشده حسن الهضيبى، وربما كان هذا هو السبب فى مقتل سيد فايز حين لم يطق أن يرى من بين إخوان النظام مَن يخالفه الرأى أو ينال بالنقد الجدى أسلوبه فى العمل أو موقعه من قيادة النظام»!
بينما يقول مؤرخ الجماعة محمود عبدالحليم فى كتابه «الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ» حرفياً: إنه تخلص منه بأسلوب فقدَ فيه دينه وإنسانيته ورجولته وعقله، انتهز فرصة حلول المولد النبوى الشريف وأرسل إليه فى منزله هدية علبة مغلقة عن طريق أحد عملائه، ولم يكن الأخ السيد فايز فى ذلك الوقت موجوداً بالمنزل، فلما حضر وفتح العلبة انفجرت فيه وقتلته وقتلت معه شقيقاً له وجرحت باقى الأسرة وهدمت جانباً من جدار الحجرة»!
ثم تتوالى الجرائم.. ويتوالى الإنكار.. ويأتى الاعتراف بالأثر الرجعى.