دراما «المتحدة».. سقف النجاح ومقياسه!
كل عام والدراما المصرية بخير. ولا أملك فى نهاية الموسم سوى أن أهنئ القائمين على هذه الدراما وأذكّرهم فى الوقت نفسه بأبيات من أشعار المتنبى، يقول فيها:
بِقَدْرِ الْـكَـدِّ تُـكْـتَسَبُ الْمَعَالِى
وَمَـنْ طَـلَبَ الْعُلَا سَهِرَ الليَالِى
وَمَنْ رَامَ الْعُـلَا مِنْ غَـيْرِ كَدٍّ
أَضَـاعَ الْعُمْرَ فِى طَلَبِ الْمُحَالِ
تَــرُومُ الْـعِـزَّ ثُـمَّ تَـنَـامُ لَـيْـلاً
يَغُوصُ الْبَحْرَ مَنْ طَلَبَ اللآلِى
والمتنبى وأشعاره خير مثال على معنى الأبيات، فقد بقيت وبقى اسمه كأعظم الشعراء العرب بفضل كده واجتهاده وغوصه أعماق بحار اللغة بحثاً عن اللآلئ.
وإذا كنا نردد لأنفسنا أننا بلد الريادة والسيادة والفن والقوة الناعمة والخشنة، فإن هذه الكلمات تُلزمنا بأن نكون على قدر مسئوليتها، وأن نرفع سقف طموحاتنا، ونبذل من الجهد ما لا يستطيع الآخرون أن يبذلوه، حتى نكون جديرين بآبائنا وأجدادنا وبالكلمات التى نرددها.
لقد حققت الدراما المصرية هذا العام نجاحات كبيرة، وتجاوزت سقفاً عالياً فى الفضاء الأثيرى الإلكترونى المسمى بمنافذ العرض. وبنظرة موضوعية غير منحازة ولا متجنية أقول إن هذا مجرد غيض من فيض، وإن بإمكان الدراما المصرية أن تُحلِّق إلى فضاءات أعلى، إذا توفرت لها الإمكانيات والظروف.
ويحتاج الأمر، قبل أن نبدأ فى وضع الخطط المستقبلية لرمضان القادم، أن نقوم بجردة حساب لهذا العام والأعوام القليلة الماضية: أن نحدد بشفافية ما الذى نجح، وما الذى تعثر، من خلال مقاييس ومعايير محددة للنجاح. وهذه قد تكون مشكلة فى حد ذاتها فى غياب معيار واضح للتقييم، إذ لا يوجد فى الدراما شباك تذاكر أو جوائز مهرجانات مثل السينما، يمكن أن تكون مقياساً ملموساً لنجاح فيلم ما. كذلك لا توجد هيئة ذات طبيعة علمية محايدة يمكن أن نستند لاستطلاعاتها ودراساتها وبياناتها، وجُل ما هناك هو الاعتماد على «تريندات السوشيال ميديا» الخادعة، والآراء الإعلامية المتحيزة، وقليل من النقاد الذين لديهم معايير خاصة، وقد تكون شخصية، لتقييم الأعمال.
وإذا رغبنا فى الحصول على تقييم حقيقى لنجاح عمل ما فعلينا اعتماد خطين بيانيين رئيسيين: نسبة المشاهدة، والتأثير.. مع ملاحظة أن الكثيرين يخلطون بين الاثنين.
نسبة المشاهدة، وحدها، لا تكفى لقياس النجاح، بالرغم من أنها فى عرف المنتجين الباحثين عن الربح المادى هى المعيار الوحيد. وكلنا نعرف أن الفن الرخيص البذىء الذى يغازل الغرائز أو المشاعر البدائية أو الذى يروّج لأفكار عنصرية أو رجعية أو عقائدية متزمتة، غالباً ما يكسب جمهوراً أكبر من جمهور الفن الراقى الذى يخاطب العقل والروح ويحارب الخرافات والتخلف والهمجية.
من هنا، لا بد ونحن نضع مقاييس للنجاح، أن نحدد استراتيجيتنا بدقة: هل نحن مع ارتقاء وعى ووجدان وحساسية وذوق الناس، أم أننا ننظر إليهم كقطيع علينا أن نقوده كالخراف الضالة إلى ما نرى نحن أنه صحيح بالمطلق؟
لقد أثار «الحشاشين» حالة من الجدل الشديد فى بداية الحلقات تعكس الصراع الدائر على مواقع التواصل بين نابذى التطرف والعنف، الذين يرون فى حسن الصباح منبعاً وجذراً لجماعات الإسلام السياسى الحالية، ومؤيدى الإخوان وإخوانهم من المتطرفين والمتشددين. والحقيقة أن هذا الجدل ليس مُجدياً فى حد ذاته، فمواقع التواصل، بدلاً من إشاعة الحوار والتفاهم، إنما تزيد من الفرقة والتطرف أحياناً. ولكن مع تقدُّم حلقات «الحشاشين» تبيَّن أن العمل يتجاوز هذا الجدل، بل يرقى به إلى نوع آخر من النقاش حول هذا النوع من الشخصيات الدينية أو السياسية، أو الاثنين معاً، ذات الجاذبية والقدرة على التأثير، التى يمكن أن تكسب آلاف، وربما ملايين، الأتباع، وأن تُغيب عقولهم حرفياً أو معنوياً وتقودهم، سعداء، بلهاء، نحو الهاوية.
مثال آخر هو مسلسل «بدون سابق إنذار»، الذى يخلو من الرطانة الأخلاقية أو الدينية أو السياسية أو درس التنمية البشرية المباشر، وهى عيوب يقع فيها كثير من الأعمال، ولكنه يعتمد على مخاطبة المشاعر الإنسانية دون مبالغة فى المواقف والحوار والتمثيل، وينجح فى التسلل تحت الجلد، مرتقياً بوجدان وروح مشاهده، فوق الصراعات الفقهية والقانونية ودروس التنمية البشرية حول مفاهيم العلاقة بين الجنسين والزواج ومعنى البنوة وحب الناس.
حسناً، كيف يمكن لهذا الكلام «البلاغى» أن يوضع كمقياس للنجاح؟
يمكن ذلك بوضع استراتيجية «تنويرية»، «إنسانية»، تخلو من المجاملات وتشغيل المقربين والمقربات، وتنحاز للموهوبين أصحاب الطموحات الراقية، الذين يكدون فى طلب العُلا، ويغوصون البحار بحثاً عن لآلئ الإبداع!