العدالة الدرامية بين «مسار إجباري» و«لحظة غضب»

عصام زكريا

عصام زكريا

كاتب صحفي

ليت الحياة بهذه البساطة التى تظهر بها فى الحلقات الأخيرة من مسلسلى «مسار إجبارى» و«لحظة غضب».

ليت الحياة عادلة، ينجو فيها الفقير البرىء من المكائد التى يدبرها عتاة المجرمين، ويستطيع فيها المخطئ، فى لحظة غضب، أن يمحو جريمته ويعود نقياً، مبرّأ، كما كان.

الحق يفوز فى النهاية، هكذا عوّدتنا الدراما منذ نشأت، وهذا ما ننتظره منها على أية حال، حتى لو لم يكن العدل والحق يفوزان دائماً فى الحياة. ولكن هذه العدالة الدرامية أو «الشعرية» كما يطلقون عليها تتطلب ثمناً، وتحتاج إلى أبطال على استعداد لدفع الثمن، وهذا هو الدرس الذى تعلمه لنا الدراما منذ أن نشأت، وهكذا ينبغى أن تؤكد لنا، حتى نتعلم أن نضحى وأن نصبح أبطالاً.

من بين أعمال النصف الأول من رمضان فإن «مسار إجبارى» و«لحظة غضب» هما الأكثر تميزاً وجودة على مستوى الكتابة والإخراج والتمثيل.

بداية من عناوين «مسار إجبارى» وأغنية المقدمة والدقائق الأولى من الحلقة الأولى، التى تبدأ بسقوط جثة فتاة من مبنى تحت الإنشاء وسط المارة، يعتمد المسلسل على صياغة قصة بوليسية «تقليدية» بطريقة واقعية وشخصيات مستمدة من تفاصيل الواقع المصرى. ويتتبع المسلسل حياة أسرتين، يربط بينهما أب واحد ميت، يترك لهما ميراثاً ثقيلاً من الديون، وجريمة قتل تسبب فيها، وجريمة قتل ارتُكبت ضده، وجريمة قتل تدبر للإيقاع بهم. ويصبح على الأسرتين، خاصة الولدين، على وحسين، أن يواجهوا كل أخطار العالم للنجاة واستعادة حق القتلى الثلاثة.

التحدى الأكبر فى هذا العمل هو الحفاظ على الشعرة بين الدراما البوليسية التشويقية، التى عادة ما تحمل مبالغات ومصادفات وبناءً درامياً هندسياً وإيقاعاً سريعاً، وبين الدراما العائلية الاجتماعية، التى تتطلب انتباهاً للبيئة المحيطة والتفاصيل وتمثيلاً طبيعياً وأحداثاً مقنعة وإيقاعاً هادئاً.

يحافظ المسلسل على هذه الشعرة معظم الوقت، وإن كان يفقدها أحياناً بمشاهد أسرع أو أهدأ من اللازم، بعضها غير مشبع أو مقنع بما فيه الكفاية، وبعضها مشبع أكثر مما ينبغى. على سبيل المثال: مشهد محاكمة صفوت وتبرئته فجأة، ووضع مسعد فى السجن مكانه. بالمقابل مشاهد صابرين وبسمة وذلك الود، بل العشق، الذى ينشأ بين كل أفراد الأسرتين، بشكل غير منطقى أو مبرر كفاية.

وعلى طريقة بناء الأعمال البوليسية هناك ذروتان للمسلسل: الذروة الأولى، المكتوبة والمصنوعة على عجل، بتبرئة صفوت وسجن مسعد، والثانية تبدأ بنهاية الأولى، مع الشك، ثم اليقين، بأن صفوت ليس بريئاً، وأن المجرم الأكبر، مجدى شحاتة، لم يزل طليقاً. ووفقاً لبناء الفيلم البوليسى فإن هذه الذروة الأخيرة يجب أن تكون أسرع وأقوى وأكثر امتلاءً بالمفاجآت. ولكن الحقيقة أنها مرتبكة ومفككة وتصل إلى درجة من التخبط فى الحلقتين الأخيرتين: إذ يتحول العالم فجأة إلى ساحة يعيث فيها المجرمون فيخطفون طفلاً ويطردون أسرة من منزلها ويقنعون الشرطة بالقبض على الشابين. وإذا كان هذا مقبولاً، بمنطق الدراما البوليسية، ففى المقابل يجب أن يكون الحل على المستوى نفسه، أى براعة وذكاءً استثنائيين من البطلين، واستعداد للتضحية، بل ووجود تضحية وثمن بالفعل لا بد من دفعه مقابل استعادة الحق والتوازن إلى العالم.

لكن النهاية، التى تدور داخل قاعة المحكمة، تذكرنا بنهايات أفلام الميلودراما المصرية القديمة، التى تتجمع فيها كل الشخصيات داخل المحكمة، ثم تظهر المفاجأة القاضية، باعتراف أحد الشهود، أو وجود تسجيل صوتى يدين المجرمين، وهكذا يحكم القاضى بإيداع عصابة المجرمين التى عاثت فى الأرض فساداً لسنوات، داخل السجن، وتبرئة على وحسين وكل أبرياء العام من الظلم الذى مورس ضدهم.

كل ما فعله البطلان هو التسجيل، صوتياً، للمجرمين، وإقناع النيابة بالتعاون معهما، بالحصول على إذن بهذه التسجيلات. وهو حل، إذا كان ممكناً، فقد كان يمكن فعله منذ الحلقة العاشرة، أو قبلها. ولا بد أن المجرمين، كما صورهم المسلسل، أذكى بكثير جداً من أن يقعوا فى هذه الأخطاء الساذجة.

مع ذلك، لا بد من الإشادة بالشكل الذى كُتبت به الحلقة الأخيرة، من اعتماد على مشاهد العودة فى الزمن flashbacks بالتزامن مع مرافعة على، لنعرف كيف قام على وحسين بالإيقاع بالعصابة. ولكن مضمون هذا الشكل كان يجب أن يكون أقوى وأذكى من هذا.

ليس أن الشرفاء لا يفوزون فى النهاية، ولكن يجب أن نقتنع، والإقناع يتأتى عن طريق التضحية ودفع الثمن والبطولة غير العادية، التى يجب أن يتمتع بها هؤلاء.

«لحظة غضب» عمل بارع كتابة وتمثيلاً وإخراجاً، ومثل «مسار إجبارى» يدمج قصة بوليسية تقليدية بنوع فنى genre آخر هو الكوميديا. وعلى عكس «مسار إجبارى» يعتمد العمل على «التغريب» أو المبالغة غير الواقعية.

فى هذا النوع من الأعمال يمكن أن يتقبل المشاهد أشياء قد ينزعج منها فى الأعمال الواقعية مثل هروب المجرم الذى يتعاطف معه الجمهور بفعلته.

ويمهد «لحظة غضب» لهذه النهاية الجريئة الصادمة قليلاً، ولكن المقبولة فى عمل كوميدى غير واقعى، كما نجد فى كثير من الأعمال التى تدور عن اللصوص والنصابين الطيبين.. ذلك أن المشاهد يحقق من خلالها حلماً قد يكون غير أخلاقى أو قانونى بالسطو على لصوص أكبر أو قتل شخص يستحق القتل، وهو بذلك يحقق «العدالة الشعرية» المنشودة بطريقة خيالية.

فى الحلقة الأخيرة من «لحظة غضب» تتحقق هذه العدالة بالفعل، ولكن التنفيذ على مستوى الكتابة مرتبك ومتخبط أيضاً. تقرر أسرة الزوج القتيل الانتقام من يمنى (صبا مبارك)، ويدبرون خطة لقتلها عقب نهاية مراسم العزاء، ولكن فجأة يعجز المسلسل عن استكمال هذا الخط الطريف، وينهونه عاجلاً مع شرب الزوجة الأخرى للقتيل ماءً مسموماً كان يفترض أن تشربه يمنى. ويبدأ خط آخر يقوم فيه مصطفى (محمد شاهين)، شقيق القتيل، بمحاولة قتل يمنى، فتسبق وتقتله أيضاً، ما يزيد من الورطة التى تقع فيها، ويبعدنا عن احتمال النهاية المنتظرة بهروبها. ولكن، كما عودتنا الدراما المصرية الخجولة كعذراء، وعلى طريقة الأفلام التى تنتهى باستيقاظ البطل من الحلم، يتبين أنه لا توجد جريمة قتل واحدة فى المسلسل: فالزوج مات من نوبة سكر، وشقيق الزوج لم يمت، والزوجة الثانية شفيت بإجراء غسيل معدة، أما زوجة مصطفى الخائنة، فقد نالت جزاءها باكتشاف أن حبيبها متزوج بالفعل. وليت الحياة بهذه البساطة، التى تبدو فى «مسار إجبارى» و«لحظة غضب»!