الشيخ ياسر السيد مدين يكتب.. كيف وصلتنا السُّنة؟

كتب: الوطن

الشيخ ياسر السيد مدين يكتب.. كيف وصلتنا السُّنة؟

الشيخ ياسر السيد مدين يكتب.. كيف وصلتنا السُّنة؟

من الحقائق التى يجهلها البعض ويتوقف فى قبولها البعض الآخر قضية تدوين السُّنّة المطهرة منذ العهد النبوى، وذلك لظنٍّ خاطئٍ أنَّ العرب آنذاك كانوا بدواً لا درايةَ لهم بالقراءة والكتابة والعلم.

وليس هذا تصوراً صحيحاً، فمن الثابت تاريخياً أنه وُجدت فى جزيرةِ العربِ ممالكُ على قدر من التحضر يقتضى درايةً كافيةً بالتدوين والعلم، كالمناذرةِ فى الحِيرةِ والغَساسنةِ فى الشام، فالمناذرةُ مثَلاً قد سجّلوا تاريخَهم فى وثائقَ وقف عليها المؤرخُ هشام بن مُحَمَّد الكَلبىُّ (ت 204) فى بِيَع الحيرة، كما أنَّ أشعار العرب قد نُسخِت للملك النعمان بن المنذر بأمرٍ منه، وكان الملك إذا استُجيدَت قصيدةٌ قال: عَلِّقوا لنا هذه؛ لتكونَ فى خزائنه، ونجد الشاعر الجاهلى عدِىَّ بن زيدٍ كان يحسن العربية والفارسية، وقد اتخذه كسرى ترجماناً بينه وبين العرب، وهذا يدل على وجود الكتابات الرسمية فى الجاهلية بدليل أن كسرى جعل فى ديوانه واحداً منهم ليكاتبهم ويترجم كتبهم إليه.

وقد حَبس النعمانُ هذا الشاعرَ بسبب وشاية، فكان يرسل وهو فى سجنه شعراً يتوسل إليه فيه أن يرحمه، وأن يعيد إليه حريته، وكتب إلى أخيه بشعر وكتب إليه أخوه شعراً أيضاً، وهذا الخبر يبين أن أدوات الكتابة كانت متاحةً حتى داخل السجون.

وكان فى العرب فى الجاهلية والإسلام مُعلّمُون حتى عقَد ابن حبيب فى كتابه المحبّرِ فصلاً خاصاً لذكرِهِم، وكان فى النساء مُعلِّمات أيضاً منهن الشِّفاءُ بنت عبدالله بن عبد شمس القُرشية التى علَّمت السيدة حفصة رضى الله عنها الكتابة، وكذلك قام جماعة من اليهود يكتبون الخط العربى بتعليم صبيان أهلِ يثرب، حتى إنَّ أمَّ أنسِ بن مالك حينما جاءت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فى العاشرة أو دونها قالت: إن ابنى هذا كاتب. وكانوا فى الجاهلية يُلقبون مَن يجمع بين الكتابة والرمى والعَوم بالكامل، وكان من أولئك الكَمَلة سعد بن عبادة، ورافع بن عبادة، وأُسَيْد بن حُضَيْر، وأوس بن خَوْلىّ، بل أجاد بعض الجاهليين العبرية وقرأ التوراة كورقة بن نوفل، وفاطمة بنت مرٍّ الخَثعميَّة.

ووُجدتْ كتبٌ فى الجاهلية منها «مجلَّةُ لقمان» وهو كتابٌ يحوى شيئاً من حِكَمِه، وكانت منه نسخةٌ عند سُويد بن الصامتِ أحد الكَمَلةِ، وهذا أمرٌ كان معروفاً فى الجاهلية، بدليلِ ادَّعاءِ المشركين أنَّ القرآن أساطيرُ استكتبها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}.

وكان من أعرافِ الجاهليين تسجيلُ الديونِ والعهودِ والصلحِ والهدنةِ والأمانِ، وقد سجَّلت قريش مُقاطعتها لبنى هاشمٍ فى صحيفةٍ وعلّقتْها فى الكعبةِ، وكانت العهود تُكتب فى صُحفٍ خاصةٍ تُسمَّى المهارقَ جمع مُهرَق، وهو ثوبٌ حرير أبيض يُسقَى الصمغَ ويُصقلُ ثم يُكتب فيه، ومن ذِكرِ هذا فى الشعر: واذكروا حلفَ ذى المجازِ وما قُدِّم فيه العهودُ والكُفَلاءُ

حذَرَ الخَوْنِ والتعدِّى وهل تَنقضُ ما فى المهَارِقِ الأهواءُ

ففى هذين البيتين يذكر الشاعر أنَّ حلف ذى المجازِ [اسم موضع] كان مكتوباً فى المهارق حتى يبقى محفوظاً لا يُنقضُ.

وفى كثرة الألفاظ الدالة على الكتابةِ وأدواتِها دلالة قاطعة على انتشارها، وبعض هذه الألفاظ ألفاظ قرآنية كالقلم والمداد والرِّقِّ واللوح والقرطاس والصحف...، أضف إلى هذا النقوش الأثرية المتعددة التى بعضُها يعود إلى عهد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين.

وقد أمر القرآن الكريم بنظام دقيق فى كتابة الوثائق مما يدل على تمكن الناس من تحقيقه {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ...}، والأمر بأن يكون الكاتب متصفاً بالعدل يدل على توفر الكتَبَةِ.

وقد كَثُرَ فى الشعر الجاهلى -كما لحظَ العلماءُ- تشبيه آثار الديار وتموجات رمالها والخطوط المنتظمة التى تصنعها الرياح فيها بالكتابة وبالصحف المكتوبة، وهذا دليل على المعرفةِ الدقيقة بها، بل فى أشعارهم ما يشير إلى معرفتهم بنقط الحروف وتحسينها.

ولا تتعارض هذه الحقائق مع وصف الفترة السابقة على الإسلام بـ«الجاهلية» ووصف العرب بـ«الأميين»، وهذا ما سوف نبيِّنه إن شاء الله تعالى.


مواضيع متعلقة