قوة الدراما الناعمة وتطهير الخطاب
أرى فى الزخم الدرامى الحالى على الشاشات عودة أو إحياء أو تأكيداً على دور القوى الناعمة المصرية. تكمن أهمية هذه العودة أو الإحياء أو التأكيد -سمها ما شئت- فى أنها تعيد زرع الثقة فى قلوب وعقول بأن مكانة مصر متفردة دون افتعال، وتجدد نفسها بنفسها دون «أزعرينة». لماذا؟ لأن المادة الخام للقوى الناعمة يتم ضخها كل 15 ثانية. ورغم أن الإفراط فى الضخ ليس مطلوباً، لكنه يبقى ضخاً لمشاريع عقول وقدرات تنتظر الفرصة لتبدع وتتألق.
ولأن الإبداع عملية شخصية للغاية، فإن تقييم هذا الإبداع أيضاً عملية تخضع لمعايير شخصية بحتة، بما فى ذلك نقد الناقدين المحنكين أنفسهم.
كذلك الحال بالنسبة للنقاد الهواة، أى حضرتك وحضرتها وحضرته وحضرتى، ممن نجلس على كنباتنا نلتهم الوجبات الدرامية، ثم نهرع إلى شاشاتنا الشخصية لنحكم على هذا العمل بالفشل وعلى ذاك بالنجاح، وعلى ثالث بالعبقرية وعلى رابع بالسطحية وهلم جرا.
هذا الحراك الشعبى فى حركة النقد الفنى من أهم وأجمل آثار زخم القوى الناعمة المصرية المتمثلة فى دراما رمضان. هؤلاء الذين يدقون على هواتفهم المحمولة أو أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم ليكتبوا رؤاهم فى هذا العمل أو ذاك يقومون بتحريك وتنشيط القوة الناعمة، وهم لا يدرون.
وتكبد أحدهم عناء المتابعة، والتفكير فيما يشاهد، وكتابة أسطر تعليقاً على ما رأى هو عناء جميل، حتى ولو افتقد بعضه مقومات الحكم الموضوعى أو عوامل التفنيد الفنى. أرى هذا الحراك الشعبى الفنى مادة معادلة للأفكار القاسية والغليظة التى تسللت إلى المجتمع على مدار سنوات، وتجذرت فى الكثير من البيوت، وأصبح هناك جيل ثان وربما ثالث مولود لآباء وأمهات هم ضحايا مد التطرف وتوغل التشدد، تلك النسخة القاسية الغليظة من الدين. إنها النسخة التى لم ولن تمحى بجرة قلم، لا سيما أن مالاً كثيراً وجهداً وفيراً وإصراراً عنيداً بذلت فيها حتى تتمكن منا.
هذه النسخة الغليظة التى يعتقد معتنقوها أن الدين عسر، وأنه وٌضِع من أجل التضييق على البشر، وأنه كلما جعل الشخص حياته حالكة السواد، وضيق على نفسه وأسرته بحبوحة العيش، وحرم نفسه من متعة الفن والإبداع، والأهم اعتبر التفكير المنطقى آفة كلما كان إلى الله أقرب، وأن الإنسان خٌلِق من أجل أن يستعد للموت وعذاب القبر وأن من الأفضل له أن يعيش عيشة الموتى منذ نعومة أظافره، كادت تقضى تماماً على معالم هويتنا المصرية. هذه الهوية يعتبرها أتباع هذه النسخة سبة وعاراً. والأمثلة كثيرة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر تلك المعلمة التى تلقن الصغار أن «رمضان مبارك» وليس «كريماً»، ورجل الدين الذى يؤكد للسائلين أنهم وحدهم من سيدخلون الجنة التى ستكون حكراً على أتباع دينهم دوناً عن أتباع بقية الأديان وغيرهم الكثير.
الكثير من هؤلاء لا يعجبهم ما يسمعونه ويرونه ضمن برنامج «نور الدين» للدكتور على جمعة، الذى أعتبره أول لبنة حقيقية وخطة فعلية فى تطهير الخطاب الدينى مما لحق به من شوائب مميتة على مدار ما لا يقل عن 50 سنة. وهى الشوائب للعلم المستمرة معنا حتى يومنا هذا، والتى يضاف إليها المزيد من قبل قائمين على أمر هذه الأفكار، ومنهم بالمناسبة من يطلون علينا عبر الشاشات ويدغدغون مشاعر من لم تتدغدغ مشاعره بعد، ونجا بنفسه من وهم التديين بالتعنيف، لكن على الأقل أصبح لدينا نواة بداية قادرة على عمل توازن فكرى مع صوت الغلظة والقسوة.
غلظة وقسوة مشابهتان تتملكان من قلوب قطاع من التجار. وللعلم والإحاطة هى جزء لا يتجزأ من النسخة القاسية للتدين التى تم زرع بذورها فى السبعينات. فهذه النسخة ليست غليظة المحتوى فقط، بل تتضمن تناقضات من شأنها أن تريح وتستريح. اسرق فى الميزان ثم صلى، والله غفور رحيم. اتبع أساليب النصب والاحتيال، ثم زكى، والله تواب عليم. اعرض البضاعة بـ100 جنيه رغم أنها لا تساوى أكثر من عشرة جنيهات، ثم قم بعمرة، وابدأ من جديد.
هذه النسخة فصلت فصلاً تاماً بين العبادات والمعاملات، فأصبح المشهد عجيباً غريباً. البعض من التجار يصر على المغالاة الجنونية فى الأسعار، ومنهم كذلك من يخفى سلعاً وقائمة الألاعيب طويلة. هؤلاء ضمن من فصلوا فصلاً تاماً بين العبادات والمعاملات. وما زالت جملة أحدهم قبل سنوات ترن فى أذنى، وكنت قد اعترضت على مغالاة شديدة فى سعر سلعة ما رغم أنه يملأ المحل بالآيات القرآنية ويغلقه وقت الصلاة، فقال: ربنا قال نضبط الميزان، لكن ما قالش حاجة عن الأسعار.
هؤلاء التجار الذين وعدت الحكومة بمراقبة أفعالهم عليهم الالتزام، وإن لم يفعلوا فأتمنى أن يكون الرد من وزارتى التموين والداخلية لا من دار الإفتاء أو رجال الدين فى المساجد والكنائس، فنحن دولة تؤمن بالتخصص.