«إمبراطورية ميم».. عبور حقل الألغام بامتياز
إعادة صياغة رواية للمبدع إحسان عبدالقدوس بالتأكيد تعتبر دخول المؤلف إلى حقل ألغام يستدعى مهارة استثنائية للعبور بسلام منه. كما خلقت مقالات إحسان عبدالقدوس السياسية مساحة تنوير ووعى عند القارئ، فقد تساوت فى الأهمية والتأثير رواياته التى شاركت الفتيات والشباب أحلامهم وطموحاتهم، تحديداً تجاه قضايا اجتماعية على سبيل المثال لا الحصر.. مفهوم الحرية بكل ما يحمله من نضج فى «أنا حرة»، مطابقة رذائل الوقوع فى أسر الغرائز سواء تلك المرتبطة بالجسد أو المبادئ فى «النظارة السوداء»، بالإضافة لتطرقه فى عديد من رواياته إلى الفجوة بين أجيال الآباء والأبناء. رغم صلاحية رواية «إمبراطورية ميم» لكل العصور، كما هو الحال مع أغلب روايات إحسان عبدالقدوس، فإن فكرة إعادة صياغتها ظلت مستبعدة، قد تكون أحد الأسباب الرئيسية تردد أى ممثلة القيام بإعادة دور قدمته فنانة متمكنة بمكانة فاتن حمامة، والمؤكد أنه لن يشكل نقطة تفوق لصالح أى ممثلة، وهو ما حدث فى بعض الأعمال التى أعيدت صياغتها سابقاً. الفيلم بكل تكامل عناصره أصبح أحد أهم كلاسيكيات السينما المصرية التى تحظى باهتمام ومتابعة المشاهد. وبالتالى حالف المؤلف محمد سليمان عبدالملك التوفيق منذ البداية حين التزم بإعادة شخصية الأب الرئيسية محوراً للأحداث كما كانت فى القصة القصيرة.
الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية قررت تخطى هذه التحديات، خصوصاً أنها لا تعترف بأى تحدٍّ أمام انطلاقاتها الإبداعية فى عالم الدراما التليفزيونية. قدمت للمشاهد تجربة ناجحة لإعادة الرواية. من المشاهد الأولى ظهرت المعالجة العصرية للمؤلف محمد سليمان عبدالملك معتمداً مسارين؛ الالتزام بروح الإطار العام للرواية والبناء عليها عبر طرح الرؤية الاجتماعية المعاصرة بكل اختلافاتها عن عام 1965 داخل تفاصيل العمل. حجم المتغيرات التى طرأت على طبيعة القضايا الاجتماعية بين الحقبتين أتاح له التحرك فى خطوط درامية ومساحات مختلفة صاغها بمهنية بين إطار الفكرة العامة للرواية والواقع الاجتماعى الحالى دون أن يشعر المشاهد بأى تغريب أو فصل بين المسارين.. عرض الفكرة الأساسية للرواية داخل توليفة أحداث وأجيال عصرية. كما يحسب للمؤلف إضافة اللمسة الكوميدية فى إعادة صياغته، ما أضفى أجواء حميمية نقلت المشاهد إلى طبيعة العصر الحالى وأبعدت مساحات المقارنة بين الفيلم والمسلسل، وبالتالى حقق هدف التنوع والاختلاف. بالإضافة إلى إضفاء مصداقية على تفاصيل الأحداث وارتباطها بالزمن الحالى.
رغم اعتياد المشاهد خلال الأعوام الماضية على تقديم مسلسلات من 15 حلقة، ما كسر عدة ثوابت درامية تقليدية أضعفت إيقاع عديد من الأعمال سابقاً، فإن «إمبراطورية ميم» نجح حتى الآن فى المحافظة على سرعة إيقاع وقوة الأحداث، ما أكد تصريحاً لمحمد سليمان عبدالملك بأن فخ الوقوع فى المقارنة سيتراجع مع كل حلقة.
كادرات وإيقاع كاميرا المخرج محمد سلامة تناغمت مع سرعة إيقاع الأحداث ومتغيراتها بتصوير متجدد عكس الحالة العصرية فى نقلاته بين الأماكن الخارجية ومنزل أسرة «مختار أبوالمجد». أيضاً إضافة شخصيات جديدة وأحداث مختلفة فرضها التناول الزمنى الحالى عززت تواصل المشاهد مع العمل. محمد سلامة فى هذا العمل يعزز موهبته البارعة فى الدراما التليفزيونية العائلية والكوميدية. إذ يظهر «إمبراطورية ميم» جمال التواصل البصرى المريح الذى يعكس محاولات «مختار أبوالمجد» التزام الهدوء فى معالجة حجم مشكلات لا نهاية لها تصادفه سواء فى نطاق الأسرة أو العمل على مدار اليوم.
إيقاع حركة الكاميرا والتقطيع بين المشاهد بعيداً عن التطويل عكس للمشاهد بجدارة أجواء الصخب المتوقعة من أفراد أسرة «أبوالمجد» بكل سمات التمرد والتنوع فى الميول حتى بين المراحل العمرية المختلفة للأبناء. الفجوة بين الأجيال فى تقييم القيم الإنسانية كالتمسك بالذكريات والجذور والأصالة من طرف الأب مقابل سيطرة لغة المادة ظهرت مع التباين بين موقف الأبناء والأب من بيع الفيلا التى شهدت تأسيس الإمبراطورية.
خالد النبوى طاقة فنية ثرية، هو يمتلك سلاسة التنقل بين شخصيات متنوعة والغوص داخلها. «النبوى» لا يتوقف عن صقل موهبته وتطوير أدوات أدائه، بالإضافة إلى امتلاكه راداراً دقيقاً يوجهه نحو اختيارات موفقة ترتقى به إلى نجاحات متنوعة. مساحة الدور هنا أتاحت له استخدام أدواته بمهارة فى تعبيرات الوجه، نبرة الصوت التى تضافرت مع الخط الكوميدى وهو يحاول التغلب على مشكلات الأبناء التى يواجهها يومياً ومحاولاته نزع فتيل التوترات.
أداء نشوى مصطفى بكل العفوية والتلقائية التى جمعت بين اللمسة الكوميدية والمذاق الإنسانى أضفى كثيراً على الأداء المميز لأفراد أسرة «مختار أبوالمجد». أخيراً نجح صناع المسلسل فى تقديم عمل درامى «طازج» يستعرض بلمسة ساخرة واقعاً اجتماعياً إنسانياً معاصراً.