مليحة.. تصعيد ذكي على مستوى القوة الناعمة
منذ نشأة دولة الاحتلال، لم يتمكن الدعم المُطلق من قوى كبرى طوال عقود من الزمان، من تعويض الذعر الإسرائيلي بسبب بحور الكراهية التي تحيط الكيان المغتصب للأراضي الفلسطينية.
على مدار عقود، كان الكيان الصهيوني يحلم باليوم الذي تنتهي أو على الأقل تنحسر فيه هذه التهديدات الوجودية، وكان يعمل على تحييد هذه التهديدات عبر محورين: الأول هو محاولة ضرب وإضعاف الدول التي تمثل تهديدا محتملا، والثاني عبر عقد اتفاقات السلام والتطبيع مع الدول التي يمكن أن عقد مثل تلك الاتفاقات معها.
حتى عام 1973، كان الصراع بين مصر وإسرائيل يستهدف -من الجانب الإسرائيلي- تدمير القدرات المصرية لتحييد التهديد بالوسائل الخشنة، لكن الانتصار المصري الساحق في حرب أكتوبر غيّر المعادلة تماما، وبات العقل الإسرائيلي يدرك أن القوة المصرية عصيّة على التحييد بالوسائل الخشنة.
في المقابل، كانت الدولة المصرية بقيادة الرئيس السادات تدرك أن المعركة لن تحسم كل شيء، وأن عودة الأرض تحتاج إلى خطوة إضافية بعد أن تغيرت الموازين على الأرض.
المفاوضات، كانت تلك الخطوة.. منذ ذلك الحين، أصبحت اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل من الأطر الناظمة لمصفوفة الأمن والاستقرار في المنطقة كلها، وفضلا عن ذلك، ورغم أن الاتفاقية لم تؤدي في أي مرحلة إلى تطبيع شعبي، لكنها خففت حدة القلق الإسرائيلي من الجبهة المصرية، حيث انحسرت احتمالات الاشتباك المباشر التي كانت قائمة يوميا لعقود.
في السنوات الأخيرة، وقبل حكومة المتطرفين الحالية في تل أبيب، كانت إسرائيل تقطع أشواطا أخرى باتفاقيات تطبيع مع عدد من دول المنطقة، كانت تستهدف من خلالها مزيدا من تبريد الأجواء، ومزيدا من تقليل المخاطر المحيطة بها لحظيا
ولأن التطرف والغباء لصيقان، استطاعت الحكومة الإسرائيلية أن تخسر كل شيء في غضون أسابيع قليلة، حتى قبل الحرب على غزة، فاقتحامات المسجد الأقصى والتصريحات المستفزة من الوزراء المتطرفين، كل ذلك مهّد الطريق أمام التصعيد الحالي.
بعد هذا التصعيد، بلغ غضب الشعوب العربية للإسرائيليين ذروته، وانضمت إليها شعوب ليست عربية لكن الغريزة الإنسانية جعلتها ترفض الإجرام الإسرائيلي.
الأخطر، أن الإجرام الإسرائيلي أعاد الحديث مرة أخرى عن اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، بعد أن كانت إطارا ناظما مُسلّما به، حيث تشهد العلاقات تدهورا غير مسبوق منذ لحظة توقيع تلك الاتفاقية.
والآن، يشاهد المصريون مسلسلا دراميا يرصد الإجرام الإسرائيلي ويعيد التذكير به، حيث يُعرض مسلسل "مليحة" في أهم مواسم الدراما على مدار العام وهو شهر رمضان الكريم.
التصعيد المصري على مستوى التصريحات السياسية وفي الغرف المغلقة أثناء المفاوضات، انعكس على تصعيد على مستوى القوة الناعمة، وهو أمر لا يُستهان به على الإطلاق، فالدراما المصرية محل متابعة كثيفة من المصريين ومن العرب جميعا الذين يتذكرون عبر قصة درامية ما اقترفته يد الاحتلال من جرائم.
وليس أدل على أهمية المسلسل من "صياح" الإعلام الإسرائيلي بمجرد عرض "البرومو"!
السؤال الآن الذي يجب أن يسأله المجتمع الإسرائيلي لقادته المتطرفين: ما الذي حصده الإسرائيليون مقابل تلك الخسائر الفادحة والعداء الذي يبلغ ذروته؟