«ميم» من إمبراطورية إلى جمهورية وبالعكس!
للعام الثانى على التوالى، بعد مسلسل «راجعين يا هوا» المأخوذ عن سيناريو لأسامة أنور عكاشة، والذى عُرض خلال رمضان 2023، يقدم خالد النبوى عملاً اجتماعياً «تشويقياً» هو «إمبراطورية ميم» المقتبس عن عملين لكاتبين كبيرين هما قصة «إمبراطورية ميم» لإحسان عبدالقدوس، وفيلم «إمبراطورية ميم» الذى كتبه نجيب محفوظ عن قصة إحسان عبدالقدوس!
القصة، المنشورة منتصف الستينات، ضمن مجموعة «بنت السلطان»، لفتت انتباه عدد من المثقفين وقتها، وتوجد أخبار أنها تحولت إلى مسرحية كتبها ممدوح الليثى وشارك فى بطولتها سلامة إلياس وصلاح السعدنى عام 1968، قبل أن يقوم «محفوظ» بتحويلها إلى الفيلم الشهير الذى لعبت بطولته فاتن حمامة وأحمد مظهر وأخرجه حسين كمال 1972، وسبب هذا الاهتمام يعود غالباً إلى ما تحمله القصة من إشارات وتأويلات سياسية ترتبط بهذه الفترة. تدور القصة على لسان الأب، وهو رجل شرقى نموذجى، طيب خلوق وناجح فى عمله لديه ستة أولاد ذكور، ويحلم بأن ينجب كل من أولاده ستة ذكور، يطلقون على كل منهم اسماً يبدأ بحرف الميم، لكى يحقق إمبراطوريته «الذكورية» العظمى، وهو رجل لا يقرأ سوى فى الاقتصاد والبيزنس، مستقر، سعيد. ويلاحظ الأب أن ابنه الثانى، مجدى، له ميول مختلفة عن الجميع، فهو يحب القراءة، ويؤسس مكتبة عامة فى المنزل يشارك فيها إخوته وأمه، وهو شاب جذاب، تحبه الفتيات، مهتم بالسياسة، وله ميول اشتراكية وديمقراطية. ثم يحدث أن تدور مناقشة حادة بين الاثنين، عندما يسأل الأب الابن إلى أين هو ذاهب، فيرفض الإجابة، ويتطور النقاش حول مدى حق الأب فى التحكم فى أبنائه بما أنه ينفق عليهم، ويحبهم، وهل الإنفاق والحب يبرران الديكتاتورية. ويقوم الابن بإقناع أمه وإخوته بإجراء انتخابات «سياسية» فى البيت، لتحديد مَن صاحب السلطة فى إدارة شئون البيت، وعندما تجرى الانتخابات بالفعل يكتشف الأب أن الجميع قد اختاروه، بمن فيهم مجدى!
القصة، للحق، متواضعة كتابة وبناء، من تلك النوعية التى تكتب للصحف على عجل، ولكنها تحمل فكرة، أو بذرة فكرة، جديرة بالتأمل، مثل الكثير من قصص إحسان عبدالقدوس.
لا تنسَ أننا فى منتصف الستينات، فى ذروة تربع جمال عبدالناصر على الحكم، وبعد قليل من فشل مشروع الوحدة العربية، وقبل قليل من هزيمة 67، وعلى بعد سنوات قليلة من وفاة «عبدالناصر»، ومجىء نظام سياسى جديد، قام بتنحية «الاشتراكية» جانباً، وأعلن إرساء نظام حزبى ديمقراطى.
قصة «إحسان» مفتوحة على القراءات، ويصعب أن تتأكد ما إذا كانت تمتدح الأب، الراوى، أم تنتقده، أو ما إذا كانت تستصوب قيام الجميع، بمن فيهم مجدى، بانتخاب الأب، أم تسخر منه.
تنتهى القصة بالعبارة الملتبسة التالية:
«لقد أصبحت إمبراطورية ميم جمهورية اشتراكية ديمقراطية. والعمارة كلها تتحدث عن تجربتنا»!
والفقرة السابقة عليها تشير إلى أنهم بعد انتخاب الأب قرروا انتخاب مجلس إدارة، تفوز به الزوجة والابن الأكبر مصطفى، ويقول الأب، الراوى: «لم ننتخب مجدى، خفنا من تطرفه»!
نجيب محفوظ، بدوره، قام بقلب القصة رأساً على عقب، مبدئياً غير الأب بالأم، وجعلها أرملة، وركز على مشكلات الأبناء، والبنات، ومن الطريف أننا نجد فى فيلم «إمبراطورية ميم» مناقشات حول حرية البنات وسلوكيات المراهقين ربما لو عرضها مسلسل اليوم لتعرض لواحدة من الهجمات المسعورة على السوشيال ميديا. ومن الطريف أن مسلسل «إمبراطورية ميم» يبدو محافظاً، بل إنه رجعى، مقارنة بالفيلم المصنوع منذ أكثر من نصف قرن!
فيما تدور قصة إحسان عبدالقدوس حول السلطة الأبوية الذكورية، فإن فيلم نجيب محفوظ يدور حول هيمنة الأم. والفارق هنا كبير جداً، قد يحتاج إلى تحليل مفصل، ولكن سأكتفى بالقول إن سلطة الأب فى القصة رمزية وتستمد من الامتلاك: البيت، المال، القانون، بينما سلطة الأم فى الفيلم عاطفية وتستمد من صلة الرحم والرباط الجسدى الذى يربط الجميع بالأم، ومن ثم فإن النهاية التى يعلن فيها فوز الأم، وانسحاب عريسها المنتظر من المشهد، تبدو كأنها إعادة إنشاء للأمومة وعودة الأبناء إلى الدخول فى هيمنة ورحم الأم.
يعيد مسلسل «النبوى»، الذى كتبه محمد سليمان عبدالملك، الكرة إلى الأب. ولكن المسلسل لا يأخذ من قصة عبدالقدوس سوى مشهد المواجهة بين الأب وابنه. أما الباقى فيأخذه من الفيلم: كون البطل أرمل، والأبناء ليسوا ذكوراً فقط، وعرض مشكلات الأبناء وفقاً لأعمارهم المختلفة (وإن كان كما ذكرت، بدرجة أكبر من التقليدية والمحافظة، ودرجة أقل من مواجهة الواقع الحالى). ومع إزاحة الأم من المشهد وتحويلها إلى شبح، فقد تحول الموضوع الأساسى للعمل إلى التغنى بإمبراطورية الأب، وبطولة ومعاناة الآباء، وعدم تقدير الأبناء لما يفعلونه فى سبيلهم، وشخصية الابن المتمرد فى الحقيقة، بأداء نور النبوى، شديدة الاستفزاز. ويضيف صُناع العمل، ربما لإطالة زمن عرضه أو لإضافة بعض التشويق الدرامى، خطاً حول رجل الأعمال الذى يحاول شراء بيوت الحى لتحويلها إلى مبان حديثة، وتصدى البطل له رافضاً بيع بيت العائلة. وهو خط يذكرنا بمسلسل «الراية البيضاء» وعشرات الأعمال الأخرى التى تدور حول تمسك البطل ببيته أو أرضه أو ورشة أبيه، ورفضه لبيعها كنوع من التمسك بالأصالة والقيم ومواجهة زحف القبح الرأسمالى.
وبذلك نصبح أمام عمل مختلف تماماً، حتى لو حمل العنوان نفسه، والفكرة نفسها.