الدكتور علي جمعة.. موت المنطق وتعطيل العقل

حسين القاضى

حسين القاضى

كاتب صحفي

فى برنامجه «نور الدين» الذى حظى بمشاهدات عالية جداً، يشتبك الدكتور على جمعة، مع الواقع المعاصر بكل جرأة، ويخاطب الكبار والأطفال والشباب، وفى الحلقات الثمانية الماضية اشتبك مع قضايا متنوعة، مثل: من خلق الله؟، أين يعيش الله؟، الحجاب، الصداقة بين الجنسين، البناء فى الأراضى الزراعية، التحايل على القانون، دخول الجنة لغير المسلم، الجن والحسد والسحر، التجميل، وتجارة العملة، والسوق السوداء.

لقى الشيخ هجوماً فى الحلقة المتعلقة بالصداقة بين الجنسين، ودخول الجنة لغير المسلم، وتولت التيارات السلفية والإخوانية وغيرها هذا الهجوم، ويمكن القول إن العنوان الأبرز هو موت المنطق، وتعطيل نعمة النظر بالعقل، والانزلاق نحو لغة العوام والشارع وأخلاق الشاعرين الحُطيئة ودعبل.

والهجوم -فى غالبه- لا علاقة له بالفقه ولا بالعلم، وليس أدل على ذلك من القول بإباحة الصداقة بين الجنسين بضوابط شرعية، قال به الإخوانى يوسف القرضاوى، والرمز السلفى عبدالعزيز ابن باز، ومع ذلك لم ينالا هجوماً أو اعتراضاً، مع أن كلامهما وكلام الدكتور على جمعة يخرج من مشكاة واحدة.

تفسيرنا لذلك أن الشيخ اخترق آخر المعاقل الباقية للتيارات السلفية والإخوانية والشعبوية، وهو معقل الشباب والأطفال، وهى منطقة تركها الدعاة والعلماء والوعاظ منذ زمن، واستغلتها المحاضن الإخوانية والسلفية.

الشعبوية الحماسية والتيارات المتطرّفة يعجبهم العالِم الساكت التقليدى الذى لا يقتحم هذه المناطق، يريدون من «جمعة» أن يجلس فى بيته أو يخرج لإعارة يجمع فيها المال ويترك التيارات السلفية تستبيح الأزهر وتضلّل عقائده وتبدع مناهجه، يريدون أن يسكت كما سكت كثيرون، يريدون ألا يتصدى للعمل الخيرى والتنموى فى «مصر الخير»، ولا للشأن العام، وينزوى فى بيته ومسجده ويترك الأطفال والشباب لتيارات الجهل والبغى والانحراف لتُكوِّن أفكارهم!!

ولو أخذنا مسألة الصداقة بين الجنسين كمثال، فإن ما قاله الشيخ هو رأى العلماء الكبار المعتدلين، ويتفق مع العقل والدين والمنطق، من أن التواصل بين الجنسين، تحت أى مسمى: صداقة أو زمالة أو تعاون، مباح طالما توافرت به الضوابط الدينية والاجتماعية، والقول بأن الصداقة ممنوعة فى المطلق، قول الفقه البدوى الصحراوى الذى تجاوزه المجتمع، وقول يترتب عليه إلغاء الصداقات فى مواقع التواصل الاجتماعى، فهى مواقع قائمة على فكرة الصداقة بين الجنسين، للتفاعل والتشارك فى الفرح والحزن والمرض والصحة والسياسة والتجارة والدين والكرة والتعليم والبيع والشراء.. إلخ، وصداقات الفيس أقرب إلى الشبهات والتجاوزات من صداقات الواقع الفعلى، لأن تجاوز واحد فى صداقة الواقع، يقابله ألف تجاوز فى صداقة مواقع التواصل، لكن غاب المنطق وانتحر العقل، لأن مواقع التواصل تكتظ بعدد لا حصر له من شيوخ متشدّدين عندهم مئات الصديقات.

مسألة: هل الجنة حكر على المسلمين؟

مسألة تكلم فيها شيخ الأزهر محمود شلتوت، والطاهر بن عاشور، والإمام أبوحامد الغزالى، وغيرهم كثيرون، وجرى نقاش فى فهم آية: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون)، وتكلم فيها الشيخ شلتوت، وكتب أحد علماء الأزهر المغاربة كتاباً صغيراً بعنوان: (التحقيق الباهر فى معنى الإيمان بالله واليوم الآخر)، ولا يمكن اختصار المسألة بهذا العرض السريع، فالمسألة فيها أقوال ومناقشات وبحوث دقيقة معروفة عند أهل التخصّص.

*

لا أحد يملك مفاتيح الجنة والنار، لا لمسلم ولا لغير مسلم، لكن الفكرة قائمة على أن الله الحق العادل، لن يعذِّب شخصاً لأنه لم يؤمن بدين وصله مشوهاً منقوصاً على غير صورته الحقيقية من القائمين عليه وأتباعه، والواقع أن الإسلام يصل مشوهاً منقوصاً للمسلم، فضلاً عن وصوله مشوهاً لغير المسلم، (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، فالرسل التى وصلت إلى غير المسلم هى رسل التطرف والتشدد وتغيير معالم الدين، أما رسالة رسل الله الحق والعلماء القائمين مقام الوراثة للأنبياء فلا.

*

قال الإمام الغزالى فى كتابه (فيصل التفرقة بين الكفر والزندقة) «إن الرحمة تشمل كثيراً من الأمم السالفة، وإن أكثر نصارى الروم والترك فى هذا الزمان تشملهم الرحمة إن شاء الله، أعنى الذين هم فى أقاصى الروم والترك، ولم تبلغهم الدعوة، فإنهم ثلاثة أصناف: صنف لم يبلغهم اسم محمد، صلى الله عليه وسلم، أصلاً، فهم معذورون، وصنف بلغهم اسمه ونعته وما ظهر عليه من المعجزات، وهم الكفار الملحدون، وصنف ثالث بين الدرجتين، بلغهم اسم محمد، صلى الله عليه وسلم، ولم يبلغهم نعته وصفته، بل سمعوا أيضاً منذ الصبا أن كذاباً ملبساً اسمه محمد ادَّعى النبوة، كما سمع صبيانُنا أن كذاباً يقال له المقفَّع تحدى بالنبوة كاذباً، فهؤلاء عندى فى معنى الصنف الأول، فإنهم مع أنهم سمعوا اسمه سمعوا ضد أوصافه» أ.هـ.

فهؤلاء من غير المسلمين فى رحمة الله وجنته، لعدم اطلاعهم على حقيقة الإسلام، وصورته النقية، ولم يكونوا من أهل النظر والفكر، ومن هنا فالجنة ليست حكراً على المسلمين، لكن غاب المنطق وانتحر العقل، وارتفع صوت الحماس الأهوج والغوغائية.