سيد القمر

سحر الجعارة

سحر الجعارة

كاتب صحفي

حين تجلس أمام العالم الكبير الدكتور «فاروق الباز»، مدير مركز الاستشعار عن بُعد فى جامعة بوسطن، تعرف معنى عبارة «تواضُع العلماء».. كنت شابة صغيرة (فى العشرينات) أقف على أول درجة فى سلم المهنة حين كُلفت بحوار مع الدكتور «الباز» الذى جاء إلى مصر ليشارك فى المهمة الدولية لترميم «أبوالهول».. والتى يُنسب الفضل فيها إلى «فاروق حسنى»، وزير الثقافة آنذاك.

لم أكن أعرف معنى «الاستشعار عن بُعد»، ولا أعرف شيئاً عن رحلة العالم المصرى كمشرف على التخطيط للدراسات القمرية واستكشاف سطح القمر، قرأت عنه كثيراً قبل اللقاء لكن المعلومات كانت شحيحة، فلم يكن «جوجل» قد خرج إلى النور.. ذهبت إلى اللقاء والرجفة تسرى فى كل بدنى.. بابتسامة دافئة، وعقل يستوعب صغر سنى وقلة خبرتى، جلس محاولاً إزالة التوتر عنى وشرح مهمته «الدقيقة»، بعلمه الغزير وعالمه الذى يتسع للأرض والفضاء معاً.. وجلست أنصت مثل تلميذة تتلقن أول درس فى الحياة: (كيف تبسط علمك ممزوجاً ببعض روحك ومرتبطاً بانتمائك للوطن؟).

ولهذا أشعر بأننا حتى الآن لم نستوعب قيمة الدكتور «الباز»، ولم نفِه حقه، ولم نستفد من تجربته الثرية، وكأن أقصى ما نملكه هو أن نفخر بأنه «مصرى»!لكن العالم كله يعرف أن الباز «نسخة وحيدة» غير قابلة للتكرار أو الاستنساخ، ولهذا اختاره مركز «إينامورى العالمى للأخلاق الإنسانية والإبداع»، فى جامعة «كيس وسترن» بولاية أوهايو الأمريكية، للفوز بالجائزة العالمية للأخلاق الإنسانية.. وذلك عن مجمل إنجازاته العلمية، وتقديراً للمشاركة الفعالة للدكتور «الباز» فى مشروع «أبوللو» لاستكشاف القمر، إضافة إلى استخداماته لمعلومات الفضاء فى حل المشاكل الإنسانية، مثل تحديد مواقع المياه الجوفية فى الصحراء لحل المشاكل.

وجائزة «كيوتو» التى حصل عليها العالم المصرى تُعرف بـ«بجائزة نوبل» اليابانية، ولا تُمنح هذه الجائزة لمن هو أفضل فى اختصاصه فقط، بل لمن أدخل الإنسانية فى عمله.. ويحصل عليها سنوياً 3 من خيرة علماء العالم، الذين خلقوا فى نفوسهم التوازن بين «الذكاء الذهنى، والعاطفة، وقوة الإرادة».. وهذا تحديداً ما يميز الدكتور «الباز».

كما أطلقت وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) اسم عالم الفضاء المصرى على كويكب مكتشف حديثاً فى 2019 تقديراً لإسهاماته العلمية البارزة.لقد هاجر «الباز» من مصر محبطاً، بعد أن فقد حلمه فى الالتحاق بكلية الطب، ثم حصل على الماجستير فى الجيولوجيا عام 61 من معهد علم المعادن بأمريكا، كما حصل على الدكتوراه فى التكنولوجيا الاقتصادية عام 64.. وعاد إلى مصر وكل حلمه أن ينشئ معهداً عالياً للجيولوجيا فى بلاده.. فكانت صدمته بقرار تعيينه مدرساً للكيمياء فى المعهد العالى بالسويس.. فهاجر سراً إلى أمريكا ليبدأ رحلة المعاناة والبحث عن عمل.. حتى فوجئ بأن «ناسا» تطلبه للعمل ضمن مجموعة جيولوجيين متخصصين فى القمر.. ومن هنا كانت نقطة التحول فى حياته.

لم يغب «الباز» يوماً عن مصر، فقد كانت تسكنه أينما رحل، وكلما ارتقى فى سلم المجد كان يعود ليهب مصر نصيبها العادل من علمه، إنها «العاطفة» و«إرادة التحدى» اللتان دفعتاه دائماً ليكون «شريكاً» وطرفاً فاعلاً فى «المعادلة العلمية» لمصر.. دون أن ينتظر ولو كلمة ثناء أو تقدير!الدكتور «الباز» مهموم بالعملية التعليمية والبحث العلمى فى مصر، وفى مؤتمر «التعليم فى مصر.. نحو حلول إبداعية» قال جملته العبقرية: (إن التعليم هو المخرج الوحيد من الخيبة التى نعيشها).. لكن الواقع أسوأ مما يستوعبه عقل العالم الذى قال عنه «ألفريد وردن» أحد رواد الفضاء فى رحلة «أبولو»، ممن درّبهم الدكتور «الباز» لتلك المهمة، حين وصل إلى القمر: (بعد تدريبات الملك.. أشعر أننى جئت إلى هنا من قبل).

ولهذا ينظر «الملك» إلى ميزانية البحث العلمى فى مصر بحسرة.. ورغم ذلك يصر على العطاء، إنه أحد علماء «المجلس الاستشارى الرئاسى»، ويُنسب للمجلس عدة أفكار مهمة، منها أنفاق قناة السويس.

فى مؤتمر «مصر تستطيع بأبناء النيل» الذى عقدته وزارة الهجرة وشئون المصريين بالخارج 2018، التقيت بتلامذة الدكتور «الباز» بين العلماء الذين استضافتهم الوزارة.. وكانت المفاجأة أن اتصلت به تليفونياً ليسعد بالأجيال التى تخرجت على يديه.ويدعم العالم المصرى المرأة بشدة، ودائماً ما يفتخر بملكات مصر القديمة اللاتى كانت فترة حكمهن من أزهى العصور، لكنه يعتبر أن «مكانة المرأة فى مصر كانت وما زالت بعض الشىء لا تعلو إلى مكانة الرجل فى العمل. هذا خلل اجتماعى يتفشى فى كل المجتمعات المتخلفة».

لديه أربع أميرات، فهو «أبوالبنات»، ويعبّر عن فخره بهن وبما وصلن إليه من مكانة مجتمعية وعائلية.فاروق الباز أعلن، خلال حوار صحفى قبل مدة، أنّ كل ما وصل إليه من مرتبة علمية يدين فيه بالفضل لزوجته ووالدته.. وقد رتب لوالدته زيارة إلى «ناسا» (تلبية لرغبتها) لحضور انطلاق الصاروخ ضمن «أبولو- سويوز» حين أبهرت بذكائها الفطرى مدير المشروع و6 علماء آخرين استدعاهم للإجابة عن أسئلتها.ويظل أروع ما فى شخصية الدكتور «الباز» يقينه المطلق بالعلم، وانتصاره للنساء، وانحيازه للحريات والديمقراطية.. يظل أجمل ما فيه هو «الإنسان».. «المصرى» الذى يجب أن ننحنى له احتراماً وإجلالاً.