الأب بطرس دانيال يكتب.. اجعل باطنك كظاهرك  

يحث القديس بولس تلميذه بقوله: «تَمسّك بالإيمانِ، وبالضمير الصالح، هذا الضمير الذى تَخَلّى عَنهُ بعضهم، فانكَسَرتْ بِهم سفينة الإيمان» (1تيموثاوس 19: 1). عندما أراد الصينيون القدماء أن يعيشوا فى سلام وأمان، قاموا ببناء سور الصين العظيم، واعتقدوا بأنه لا يوجد إنسان على الأرض يستطيع أن يتسلّقه لطول ارتفاعه الشاهق، ولكن خلال المائة عام الأولى من بعد بنائه، تعرّضت الصين للغزو ثلاث مرات! وفى كل مرة منها لم تكن جحافل العدو البرية فى حاجة إلى اختراق السور أو تسلقه، بل كانوا يدفعون الرشوة للحارس فى كل مرة، ثم يدخلون عَبرَ الباب. والسبب فى ذلك يرجع إلى انشغال الصينيين ببناء السور، ونسوا بناء الحراس.

هذا ما نعيشه فى الواقع على مدار العصور، لوجود هؤلاء الأشخاص الذين يتمسّكون بالتديّن الظاهرى والشكلى، ويهملون الجوهر الحقيقى الذى يطلبه الله منا فى كُتبه المقدسة وداخل ضمير الإنسان الحى. فهناك الأشخاص الذين يعتبرون التديّن هو الواجهة المرئية أمام الناس، فهمهم الأول والأخير هو نظرة الآخرين لهم ليمدحوهم ويجاملوهم، فى حين أن الداخل بعيد تماماً عن الله وعن التعاليم السامية. كما نصطدم فى حياتنا اليومية ببعض الأشخاص الذين يستخدمون كلمات منمقة مثل: «يا أخى..»، «استمع جيداً يا أخى الحبيب..»، «احترس يا أخى العزيز..»، إنها كلمات تُعبر عن الاحترام والرقى واللباقة، ولكن المعاملة فى الواقع تدل على شىء آخر، ونجد هؤلاء الذين يتمسحون بثوب الطيبة، لكنهم يُعَادون ويهينون نفس الأشخاص الذين يتكلمون معهم بطريقةٍ مهذبة.

هل نستطيع أن نتخيّل صندوقاً جاهزاً على أكمل وجه، مغلفاً بورق الهدايا دون ملاحظة أى ثنية فيه، وكل زواياه مستقيمة والعُقَد مضبوطة، وتم دفع الرسوم الجمركية، والعنوان مكتوب على الواجهة بكل وضوح، ولكن العيب الوحيد هو أن هذا الصندوق فارغ؟ فإذا قارنا هذا بالواقع، نستطيع مطابقته بصورة الأشخاص الذين يتمسكون بالمظاهر فقط، دون الاهتمام والرعاية بالعمق وبداخل الإنسان. مما لا شك فيه أن هناك أسباباً متعددة تدفع الإنسان إلى ظاهرة النفاق، وتختلف من شخص لآخر، فنجد هؤلاء الذين يريدون التسلق على أكتاف الآخرين، وهؤلاء الذين يرغبون فى الظهور بأجمل صورة أمام الناس، حتى لا يكتشفوا عيوبهم، وهؤلاء الذين يسعون إلى الحصول على مناصب مرموقة أو المال أو الشهرة أو الهدايا وغير ذلك.

وهنا يحذر السيد المسيح من نفاق الكتبة والفريسيين قائلاً لهم: «الويلُ لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون، فإنكم أشبه بالقبور المُكَلَسة، يبدو ظاهرها جميلاً، وأما باطنها فممتلئ من عظام الموتى وكل نجاسة. وكذلك أنتم، تبدون فى ظاهركم للناس أبراراً، وأما باطنكم فممتلئ رياءً وفسْقاً» (متى23: 27-28).

للأسف نجد أشخاصاً مقتنعين تماماً بأن الرياء هو امتياز وقوة، ولا عيب فيه، حتى إنهم يسعون إلى تعليمه للآخرين، ويزينونه حتى يظهر أنيقاً مُقنعاً سواء عن طريق الكلام أو الابتسامة أو التصرفات الخارجية. إذن لن يستمر الخداع مخفياً عن الأنظار مدى الحياة، لأنه سينكشف حتماً ما بداخل الإنسان سواء اليوم أو الغد، ويظهر الشخص على حقيقته، ويتعرى أمام الجميع. كما أن هناك الأشخاص الذين يظهرون بوجهين، أحدهما أمام المجتمع فى معاملاتهم اليومية، والآخر الحقيقى مدفون حتى لا تنكشف حقيقتهم.

فمن الأفضل أن نعوّد أنفسنا على الظهور بالوجه الحقيقى أمام الجميع دون غش أو رياء، حتى لا نفقد ثقة الناس فينا. ونقرأ فى الرواية الشهيرة (الخطاب القرمزى) للكاتب Nathaniel Hawthorne: «لا يستطيع أحد أن يظهر بوجه لنفسه لوقت طويل، ووجه آخر أمام الناس. لأنه حتماً سيصل إلى اللحظة التى لا يستطيع أن يميّز فيها أيهما الوجه الصحيح وأيهما المزيف».

فالتصنع ينتج عنه زيف وإنسان بوجهين معجون بالرياء، حتى إنه يصل بصاحبه إلى مرحلة فيها يصدق الأكاذيب التى اخترعها وابتكرها، ويتصرف كالحرباء التى تغيّر جلدها لتجنب الأذى، ويضل الآخرين وتكون نهايته أنه يصل إلى اللحظة التى فيها يجهل حقيقة ذاته. إذن، كل إنسان يعيش فى النفاق والرياء، يتمسك بالمظاهر الخارجية دون الاهتمام بالجوهر أو كينونته، كما أنه يتظاهر بمظهر المتديّن؛ لكن قلبه مملوء بالرياء والشر والحقد. ما أكثر هؤلاء الأشخاص الذين يسيرون أمام الناس بخطوات مستقيمة ومُنكسى الرأس كأنهم متواضعون، ولكن قلبهم يكون مليئاً بالتعالى على الآخرين واحتقارهم. وهنا نختم بالقول المأثور: «تستطيع أن تخدع كل الناس بعض الوقت، وتستطيع أن تخدع بعض الناس كل الوقت، ولكنك لن تستطيع أن تخدع كل الناس كل الوقت».