أصداء زيارة أردوغان التاريخية إلى القاهرة

فى السياسة كما فى الحياة، لا توجد خصومة دائمة، وعندما أدركت كل من مصر وتركيا عدم جدوى «قطيعة سياسية» امتدت بينهما لأكثر من عقد من الزمان، استثمرتا كل الفرص المناسبة لإزالة الحاجز السياسى بينهما، والذى تهاوى سريعاً عقب «المصافحة البروتوكولية» التى جرت بين الرئيسين عبدالفتاح السيسى ورجب طيب أردوغان برعاية قطرية فى افتتاح كأس العالم فى قطر (نوفمبر 2022)، ثم منحتهما «دبلوماسية الزلازل» فى فبراير 2023 فرصة تاريخية أنهت جمود المشاعر بين الشعبين وحولته إلى تعاطف كبير، أسفر عن دعم حقيقى ومساندة صادقة من المصريين، بعد أن ضرب زلزال مدمر عدداً من المدن التركية، معيداً للأذهان علاقة قديمة وراسخة بين البلدين، تجلت بصورة أكثر وضوحاً فى دعم مصرى لتركيا عقب زلزال سابق فى سنة 1999، حيث شاركت وقتها القوات المسلحة المصرية بجهود مؤثرة، فقد «أرسلت القاهرة مستشفى ميدانياً قوامه 250 سريراً، ومخبزاً ميدانياً ينتج 2500 رغيف فى اليوم، ووحدة تفتيش وتكسير، وكلاب الحرب»، وذلك بحسب ما أكده اللواء سمير فرج، المفكر الاستراتيجى والقيادى السابق بالجيش المصرى، فى تصريحات إعلامية متعددة.

وتأتى زيارة الرئيس التركى رجب طيب أردوغان إلى مصر فى توقيت بالغ الأهمية، وتمثل نقطة تحول فارقة فى تاريخ الشرق الأوسط، فلقد قفز الزعيمان المصرى والتركى إلى الأمام، ليشيدا جسراً بين بلديهما تخطى عقبات الخلاف ومطبات الاختلاف، وفى رأيى أن كليهما السيسى وأردوغان يقدران مصالح بلديهما حق تقدير، لذلك أسقطا بيسر الماضى القريب من حساباتهما واكتفيا بالماضى الراسخ الذى يمتد لما يزيد على «ألف سنة» وفق تعبير الرئيس التركى فى كلمة ألقاها عقب جلسة مباحثات ناجحة جرت بين الوفدين المصرى والتركى فى قصر الاتحادية بالقاهرة قبل أيام.

وبُذلت جهود دبلوماسية جبارة خلال العام الماضى للوصول إلى لحظة التقارب التى تحققت بين البلدين الكبيرين فى إقليم «الشرق الأوسط»، ووضح خلال الزيارة تنامى التفاهم المصرى التركى، وهو ما يؤسس لمرحلة جديدة للأمن الإقليمى للمنطقة بأسرها، فكلا البلدين يمتلك أوراقاً مهمة يستطيع أن يدفع بها مسارات العمل المشترك.

ولأن كليهما أيضاً تواجهه تحديات اقتصادية ضخمة، لذلك تصدر ملف الاقتصاد الزيارة التاريخية، وقد أعرب الرئيس المصرى عن طموحه المشترك مع الرئيس التركى لأن يزيد حجم التبادل التجارى ليصل إلى 15 مليار دولار فى أقرب وقت.

وكلا الرئيسين يحمل تقديراً خاصاً للبلد الآخر، ومعروف اهتمام الرئيس التركى وهوسه بمصر التى زارها أكثر من مرة، كان آخرها خلال فترة «حكم الإخوان» لمصر سنة 2012، وكان وقتها رئيساً للحكومة، فيما لفت نظرى تحليل سياسى راق نشرته مجلة «المجلة» السعودية قبل الزيارة وعنونته «أردوغان فى القاهرة... فجر جديد بين مصر وتركيا؟»، استفاد محرره من كتاب «كنت سفيراً لدى السلطان» لسفير مصر السابق لدى أنقرة، السفير عبدالرحمن صلاح، والذى رصد فيه آراء الرئيس المصرى عبدالفتاح السيسى فى «تجربة أردوغان» التنموية خلال زيارته للعاصمة التركية وهو وزير للدفاع عام 2012، كما نقل أيضاً تقدير أردوغان للرئيس السيسى والجيش المصرى.

وربما سهل هذا الإعجاب المتبادل من المصالحة التاريخية، التى مهد لها ثلاث مصافحات رئاسية سابقة بين عامى 2022، 2023 فى مناسبات مختلفة تصادف حضور الزعيمين لها، واستكملتها جهود دبلوماسية شاقة تخللها مطالب مصرية متعددة، قوبلت بتفهم تركى واستجابة تعكس الحرص على مستقبل العلاقات بين البلدين.

فيما قال الكاتب والإعلامى السعودى الكبير عبدالرحمن الراشد تعليقاً على زيارة أردوغان إلى القاهرة فى تغريدة له على منصة «X»: «السياسة التصحيحية التى انتهجها ‎أردوغان تبين قدرته فى الحفاظ على مكانة تركيا فى موج الأحداث المتلاطمة، حرب أوكرانيا، صراع النفوذ الأمريكى الإيرانى فى ‎سوريا، واليوم فى ‎حرب غزة».

وأوضح أن «زيارته إلى ‎مصر تسير تماماً فى الطريق المعاكسة للحملة التى تشنها جموع المعارضة الإقليمية وتستهدف القاهرة. زيارة الرئيس التركى لمصر إعلان واضح وصريح أنه يقف مع حكومة السيسى ويقطع بها الشكوك والتأويلات ويقترب بتركيا أكثر نحو محور الاعتدال».

ثم ختم قائلاً: «فى وسط مأساة غزة التى تسبب فيها محور الرفض والممانعة، هذه لحظة محور الاعتدال الإقليمى، أولاً لوقف تهجير نحو نصف شعب فلسطين، التى قادت إليها حرب ‎غزة، والسعى لإقامة الدولة الفلسطينية بدون القوى المتطرفة التى هى نفسها اليوم تهاجم الرئيس أردوغان على مواقفه المعتدلة».

و«الراشد» واحد من صناع القرار الإعلامى البارزين فى بلاده، وهو رئيس تحرير سابق لصحيفة «الشرق الأوسط» وقناة «العربية»، وتحظى مقالاته وتغريداته باهتمام فى سائر دوائر القرار الإقليمى.

وكانت السعودية قد سبقت مصر فى المصالحة مع تركيا ضمن سياق التوجه الدبلوماسى لأنقرة نحو «تصفير المشكلات» مع دول الجوار فى الإقليم، وإن كان التوتر قد تجدد فى العلاقات بين البلدين قبل أن ينتهى العام 2023 بسبب صورة «أتاتورك» مؤسس تركيا الحديثة، التى أصر لاعبون أتراك على تزيين ملابسهم بها خلال مباراة «السوبر التركى» التى كانت ستقام نهاية شهر ديسمبر الماضى ضمن فعاليات «موسم الرياض»، فيما اعتبرت «المملكة» وضع الصورة بمثابة «تسييس» للرياضة، وهو ما يتعارض مع اللوائح الدولية.