مصر - تركيا.. سحابة صيف لا تبلغ الجذور
فى تاريخ علاقات الدول قد يحدث مرور سحابة صيف.. مرحلة فتور عابر بين أى دولتين فى العالم، لكنها قطعاً لن تبلغ فى عمقها جذور روابط تاريخية واقتصادية نسجت أسسها عبر عقود طويلة على مر الزمن. منذ عام 2014 التزمت مصر نهج الحكمة والتوازن فى علاقاتها، ليس فقط دولياً ولكن إقليمياً. بالتالى فإن النجاح كان مضموناً للحوار الدبلوماسى الذى بدأ منذ ثلاث سنوات بهدف إذابة كتلة الجليد العابرة فى العلاقات المصرية التركية.
دعم هذا التقدم زيارات ذات طابع إنسانى بعد كارثة الزلزال التى حلت بجنوب تركيا العام الماضى، تواكب ذلك مع تصاعد المطالبة فى الداخل التركى بضرورة المصالحة المصرية التركية وفوائدها للجانبين، مع تواصل اللقاءات المكثفة على مختلف المستويات.
لعل أبرزها المسار الاقتصادى حتى جاء الإعلان خلال المؤتمر الصحفى الذى عقد بين الرئيس عبدالفتاح السيسى والرئيس التركى رجب طيب أردوغان عن أرقام التبادل التجارى الذى تجاوز 10 مليارات دولار العام الماضى، والمقرر أن يرتفع إلى 15 مليون دولار خلال الأعوام الثلاثة القادمة. ملف الاقتصاد فرض نفسه قبل اندلاع ملفات إقليمية إثر انطلاق عملية طوفان الأقصى وامتداد مخاطر التصعيد ليشمل دولاً إقليمية وعربية.
فى ظل أزمات دولية متتالية ألقت بظلالها السلبية على العالم، ما وضع الاقتصاد كمعادلة أساسية فى السياسات الخارجية، وإعلاء انتهاج التوازنات والمواءمات بهدف خدمة مصالح الدولتين، أردوغان، السياسى المحنك، اتجه نحو مسار يفتح آفاق تعاون مع دولة مهمة مثل مصر للعمل على إنعاش اقتصاد بلاده. مصر أيضاً معنية بالتنسيق مع تركيا فى عدة ملفات، منها الحد من اتساع رقعة المواجهة فى البحر الأحمر التى أشعلتها هجمات تنظيم الحوثى على السفن الغربية، ورفض الدولتين تحويلها إلى أزمة إقليمية تهدد المصالح التجارية والحيوية للعديد من الدول.
مصر خلال الأعوام الماضية نجحت فى فتح آفاق جديدة ومتنوعة فى مجال الاستثمار شجع دولاً عديدة على الاستجابة بعد نجاح إنشاء المناطق الصناعية المختلفة وتطوير منظومة مشاريع النقل الدولى المائى والبرى، ما دفع المستثمرين الأتراك إلى نقل معظم استثماراتهم إلى الأسواق المصرية لما تتمتع به من فرص واعدة وما تمتلكه من إمكانيات تصنيعية وعمالة ماهرة مع تعدد مجالات التبادل التجارى المشترك، خصوصاً أن مصر هى الشريك التجارى الأول لتركيا فى القارة الأفريقية.
وتأكيد أردوغان أن تطوير علاقات بلاده مع مصر سيعزز الطاقات الاقتصادية لتركيا ومصر، خصوصاً مع توقع استجابة تركيا لطلب جمعية رجال الأعمال المصريين الأتراك استخدام العملات المحلية فى المعاملات التجارية والمالية مع مصر، ما سيؤدى إلى تعزيز موقف الجنيه المصرى والليرة التركية. ملف الطاقة أيضاً كان حاضراً ضمن أطر التعاون، إذ تسعى تركيا إلى استيراد احتياجاتها من الغاز المصرى بشروط أفضل مع الاستفادة من عامل القرب الجغرافى بين الدولتين.
دخول مرحلة جديدة للعلاقات المصرية - التركية جاء فى توقيت حاسم مناسب بما سيكون له من انعكاسات مؤثرة على الأمن القومى للمنطقة، وسط مخاوف من اتساع دائرة تصعيد الصراعات لتشمل جبهات ودولاً أخرى، بالتالى فإن ملف الاعتداءات الوحشية الإسرائيلية على قطاع غزة وتداعياته التى وضعت المنطقة على فوهة بركان هو مسار موازٍ للملف الاقتصادى. فالهدف الرئيسى من لقاء قادة الدولتين هو التعاون من أجل الوصول لتخفيض حدة التوتر فى المنطقة، وهو ما كشف عنه تصريح الرئيس التركى أن الأوضاع المأساوية فى غزة تصدرت جدول أعمال مباحثاته مع الرئيس عبدالفتاح السيسى، مؤكداً تضامن بلاده مع موقف مصر من رفض تهجير سكان قطاع غزة إلى مصر.
أمن المنطقة لا يقتصر على هذا الملف رغم تصدره الاهتمام العربى والإقليمى، لكنه امتد إلى دول تشهد اضطرابات أمنية مثل سوريا، وليبيا، والسودان، ما يتطلب توحيد الرؤى السياسية العربية - العربية مع ضم البعد الإقليمى ودوره فى الترتيبات الأمنية والسياسية القادمة بحكم قربه الجغرافى من المنطقة العربية. التحالف الاستراتيجى بين دولتين لهما ثقل كبير فى الشرق الأوسط من شأنه منح المنطقة قوة وأماناً، خصوصاً فى توقيت شديد التعقيد والحساسية يعاد فيه رسم مستقبل الإقليم وإعادة ترتيب الأوراق.
أبعاد هذه الخطوة الإيجابية أنها تمهد لتحالف قوى جديد بين قوتين رئيسيتين قادرتين على مواجهة الصراع والمخططات التى تستهدف زعزعة الاستقرار فى المنطقة وتوسيع مساحات الصراع بما يتجاوز حدود التهدئة.
بعد تراجع الأمل فى إذعان الكيان الصهيونى للضغوط والقرارات الدولية وتقاعس قوى الغرب عن ممارسة ضغوط حقيقية ومؤثرة للحد من وحشية الجرائم الإسرائيلية، تبدو اللحظة مناسبة للتوجه نحو بناء موقف عربى إقليمى موحد بحكم التحديات المشتركة.
تصريح الرئيس التركى أردوغان منذ عامين «مصر ليست دولة عادية بالنسبة لنا» كان إعلاناً صريحاً حول حتمية عودة قوة العلاقات بين الدولتين فى ظل التحولات السياسية والإقليمية التركية، تحديداً وأن أبلغ قواعد السياسة لخصتها كلمات «ليس فى السياسة صداقة دائمة ولا عداء دائم هناك فقط مصالح دائمة».