«النقشبندي» المبدع الزاهد.. في ذكراه
فى مثل هذه الأيام منذ 48 عاماً ودعت مصر والعالم العربى علماً من أعلامها العظام فى التواشيح الدينية، وأحد مظاهر القوى الناعمة الكبرى لمصر، وأحد الذين ذكّروا الخلق بالحق سبحانه، وربطوا الأرض، وأناروا الوجدان الإنسانى بأعذب الكلمات والصوت الشجى.
وأكثر من هذا كله ملأ الدنيا زهداً وخلقاً وتصوفاً حقاً، حتى إنه لم يتقاضَ أجراً عن كل التواشيح التى سجلها للإذاعة، وتبعه فى ذلك المؤلف العظيم لتواشيحه الأديب الكبير عبدالفتاح مصطفى والملحن المبدع بليغ حمدى، حيث تبرعوا جميعاً بهذه التواشيح للإذاعة تقرباً إلى الله، وهى والله أرجى أعمالهم، حيث وضع الله لها القبول فى الأرض منذ تسجيلها وحتى اليوم فصارت خالدة خلود الشمس والقمر.
لغة الكلام على فمى خجلى / ولولا الحب لم أتكلم/ يا مظهر التوحيد حسبى أنني /أحد الشداة الهائمين الحوّم
تنطلق هذه الكلمات من الراديو الترانزستور بصوت العبقرى النقشبندى صاحب الحنجرة الذهبية، فأشعر بأنها تهز الكون هزاً ولا تهزنى وحدى، وأشعر كأن الرسول، صلى الله عليه وسلم، أمامى من صدق كلماته.
كان الشيخ النقشبندى من أسرار سعادة حياتى، كان صوته ينفذ إلى قلبى مباشرة، وكانت معانى كلماته تجعل شعر رأسى يقف ويقشعر جلدى بتأثير دفق كلماته الرائعة التى يغلفها صوته الذى لا أظن أن الزمان سيجود بمثله.
فالشيخ النقشبندى لم يكن مجرد صوت يصدح بذكر الله أو مدح الرسول «صلى الله عليه وسلم» بل كان حالة إيمانية راقية تنتقل من قلبه الصافى النقى المحب لرسول الله إلى القلوب التى تسمعه وتصغى إليه.
كان النقشبندى حالة فريدة، وكنت كلما حزنت أو ركبنى الهم فى السجن، أسمع بعضاً من تواشيحه من إذاعة القرآن الكريم العريقة فيزول همى وحزنى وأجد نفسى أحلق فى سماء النبوة العالية.
ونحن الآن فى ذكرى وفاته تتجدد ذكراى مع الشيخ النقشبندى الذى ملك علىّ روحى ونفسى، فكلما سمعته كنت أقول: هذا صوت من أهل السماء وليس من أهل الأرض لفرط قوته مع عذوبته وصفائه.
كنت أشعر بأنه يعيش بقلبه وجوارحه مع كل كلمة يصدح بها مادحاً رسول الله «صلى الله عليه وسلم»، وعندما قرأت سيرته أدركت ذلك وتأكدت منه، فأحياناً كان يتصدق على الفقراء بكل ما حصل عليه فى ليلته قبل أن يصل إلى بيته.
فمحبة الرسول «صلى الله عليه وسلم» هى نعمة لا يزرعها الله فى قلب أى أحد، والتحدث باسم الرسول «صلى الله عليه وسلم» أو مدحه مدحاً صحيحاً لا يؤتيه الله إلا لأوليائه وأصفيائه، فكم من أناس كتبوا أشعاراً فى مدح الرسول ولكن «بردة البوصيرى» هى التى صارت العلامة الأولى فى عالم مدحه، ربما لشىء وقر فى قلب البوصيرى نفسه، وكم من علماء شرحوا صحيح مسلم ولكن لم يبقَ فى القلوب والنفوس سوى شرح النووى، وكم من أناس مدحوا الرسول «صلى الله عليه وسلم» بأصواتهم ولكن لم يبقَ لأكثرهم ذكر وفى المقابل كتب الله لصوت ومدح النقشبندى الخلود والبقاء عبر الأجيال، بل إن الأذان الرائع للنقشبندى الذى يتداول الآن فى كل الفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعى أداه قبل أن يموت بيوم واحد، وكان مريضاً جداً وينوى الاعتذار عن هذا التسجيل فى الجمعة للتليفزيون ولكنه تحامل على نفسه وأداه ليؤدى الله عنه ويبلغه عنه للدنيا كلها.
إن الشيخ النقشبندى لم يتفوق بقوة صوته وحلاوته فحسب ولكن بشىء وقر فى قلبه ألا وهو الإخلاص والحب الكبير لهذا النبى العظيم محمد «صلى الله عليه وسلم»، فأبوبكر الصديق «رضى الله عنه» لم يتفوق على أقرانه من الصحابة بكثرة صلاة أو صيام أو صدقة ولكن بشىء وقر فى قلبه ألا وهو الإخلاص.
إنك تكاد تنخلع من نفسك والدنيا كلها وتهتز خشوعاً وطرباً وتزداد إيماناً فى الوقت نفسه حينما تسمعه وهو يصدح قائلاً:
وافى ربيع فمرحباً بهلاله / قد أقبل الإسعاد فى إقباله/شهر به سعد الزمان /فحقه أن يزدهى شرفاً على أمثاله/ ما ازدانت الأعياد إلا أنها/ جمعت لزينتها بديع جماله.
لقد كان النقشبندى يختار كلمات أشعاره بدقة ولا ينشدها حتى يعيش فيها بقلبه ووجدانه، وقد رزقه الله بشاعر عظيم يندر أن يجود الشعر الإسلامى والدينى والوطنى بمثله وهو الشاعر العبقرى عبدالفتاح مصطفى.
فالنقشبندى كان قارئاً ذواقاً للشعر والأدب والفنون كلها، وكانت مكتبته العامرة زاخرة بكل فنون الكتب، ولك أن تتأمل هذه الأبيات الرائعة وهو يصدح بها مادحاً خاتم المرسلين:
صلى الإله عليه نوراً هادياً/ متعبداً فى غاره لم يسأم/ هيمان تضرع للسماء دموعه/ فى جيد مشتاق ووجد متيم/ يا رب إليك تشوقت روحى/ وحبك مستثار فى دمى/حتى أتى الروح الأمين يضمه / ضماً على رهبوته المتبسم/ اقرأ نبى الله اقرأ وابتهل/ وبذكر ربك يا نبى ترنم/ اقرأ وربك ملهم سبحانه / قد علم الإنسان ما لم يعلم.
والله ما سمع أحد النقشبندى إلا أحب رسول الله أو زاد فى حبه أو تبتل فى حبه أو هام به وأحب كذلك النقشبندى وتواشيحه وأدمنها.
إننى أزعم أننى ظللت أستمع إلى النقشبندى من بداية شبابى وحتى اليوم وما سئمت من تكرار سماعه، وأزعم أن مثل النقشبندى أوصل رسالة الرسول «صلى الله عليه وسلم» الإسلامية إلى الناس أكثر من عشرات الوعاظ والخطباء وأقوى من عشرات المؤسسات العلمية التى تتحدث عن الرسول «صلى الله عليه وسلم» أو تدافع عنه وأعظم من عدة جماعات وحركات إسلامية.
وقد صدقت الشاعرة الرائعة عليه الجعار وهى ترثى الشيخ النقشبندى قائلة:
هاجه الشوق ففاضت مقلتاه/ ثم غناه نشيداً فبكينا /غاب صوت النقشبندى ولكن/ سوف يبقى خالداً ما غاب عنا.
والشيخ النقشبندى كان من كنوز مصر المدفونة لولا أن الرئيس السادات رحمه الله أخرجه من النسيان إلى عالم الخلود والبقاء لتسعد بصوته ملايين الناس.
لقد كان السادات ذواقاً للفن عامة وللتواشيح خاصة، وهو الذى جعل الإذاعة تهتم أكثر وأكثر بالنقشبندى، رحم الله السادات الذى كشف عن معدن رائع لصوت رائع، ورحم الله النقشبندى الذى دخل بصوته كل بيت فى الوطن العربى وذهب بنفسه وصوته إلى بلاد كثيرة، وكان علامة بارزة على شهر رمضان من جهة وعلى مدح النبى محمد «صلى الله عليه وسلم» من جهة أخرى.