محمود فوزي السيد يكتب.. النجيب والبليغ بصوت «الست شادية»
اسألنى فى أى وقت وأى ظرف عن الأغنية المفضلة لذائقتى السمعية من بين أكثر من 500 أغنية قدمتها «الست شادية»، أجيبك على الفور «قولوا لعين الشمس ما تحماشى» كلمات الأستاذ مجدى نجيب ولحن عبقرى الأزمان بليغ حمدى.. يبدى البعض دهشتهم أحياناً لاختيارى؛ ربما لأن تاريخ الست شادية يحمل من الأغنيات ما هو أشهر من «قولوا لعين الشمس» وربما لأنها ليست من نوعية الأغنيات التى تذاع بكثافة فى مناسبات معينة، لكن تبعاً لذائقتى الموسيقية أرى فى تلك الأغنية «كلمات ولحناً وغناءً» ملحمة غنائية يجب دائماً التوقف أمامها بالتحليل والانبهار بكل عوامل صناعتها.. بدءًا من جملة الافتتاح «قولوا لعين الشمس ما تحماشى.. لحسن حبيب القلب صابح ماشى» لأن من غزل هذا المطلع للأغنية هو «النجيب» فى مدرسة شعراء العامية الذى قَبِل تحدى أهم ملحن عرفته الموسيقى العربية «البليغ».
فكما روى هو نفسه فى كتابه «صندوق الموسيقى - زمن الفن الجميل» أن بليغ حمدى تحدّاه فى كتابة كلمات على لحن معين وضعه هو مسبقاً، وذلك بعد إقناعه من الأصل بكتابة الأغنية وهو الرافض للمبدأ من البداية، وعندما كتب كلمات أغنية بالفعل عرضها على بليغ فوجده «يدندن» لحناً آخر بعيداً عن «التيمة» التى كتبها، ليفاجأ بطلب بليغ بكتابة كلمات على هذا اللحن، وهو الأمر الذى وجد فيه تقييداً لمارد الشعر بداخله، إلا أن تحدى بليغ له بالقدرة من الأصل على كتابة كلمات على لحن استفزه وجعله يعود له بعد أيام قليلة بكلمات أغنية يقول مطلعها «قولوا لعين الشمس ما تحماشى.. لحسن حبيب القلب صابح ماشى» صدرت فى العام 1966 فى الإذاعة المصرية التى أنتجت الأغنية.
عبقرية «النجيب» تجلت فى اطلاعه على الموروث الشعبى لأغانى المصريين والتقاطه أول خيط لأول أغنية يكتبها من هذا الموروث الوفير، فكما ذكرت المصادر التاريخية يعود مقطع «قولوا لعين الشمس ما تحماشى» للعام 1910 عندما غناها المصريون ليلة إعدام الشاب إبراهيم الوردانى إثر اغتياله لرئيس الوزراء بطرس باشا نيروز غالى المعروف وقتها بأنه من أشد الموالين للاحتلال الإنجليزى، والذى جهز لمشروع مد امتياز قناة السويس لأربعين عاماً جديدة.. وفى ليلة تنفيذ حكم الإعدام فى الشاب إبراهيم الوردانى الحاصل على شهادة الصيدلة، خرج المصريون لوداع البطل الشاب الذى ضحّى بحياته من أجل وطنه مرددين هتافاً بلحن موسيقىٍّ شعبى بديع قائلين «قولوا لعين الشمس ما تحماشى.. لحسن غزال البر صابح ماشى» فى وداع شعبى مهيب.
من هذا الموروث الشعبى استقى الشاعر الشاب وقتها مجدى نجيب أغنية بديعة عن الفراق وتأثيره على المحب الذى ربما لا يشعر بطعم الحياة بدون حبيبه وهو يقول «دى الآه بقولها وهو ما يدراشى.. وفى بُعده طعم الدنيا ما يحلاشى».. واتخذ من «الفراق» تيمة رئيسية كما الأغنية الأصلية التى غناها المصريون فى وداع الشاب إبراهيم الوردانى.. حاملاً فى كلماته وصايا للجميع - بدون سابق معرفة - بضرورة الاهتمام بهذا الحبيب الذى حتى وإن غاب عن العين فهو لن يغيب عن القلب كما يقال فى الأمثال الشعبية «آه يا ناس مطرح خطاويه ما تروح.. اسقوه بحنان اسقوه ردوا له الروح»، طالباً منهم فى نفس الوقت حث هذا الحبيب المفارق على عدم قطع الصلة بشكل نهائى «ويا ناس لو غاب يا ناس خلّوه يبعتلى سلام».
وسط كل هذا الكم من وجع الفراق والوصايا غلفت المقامات الموسيقية الشرقية للبليغ «بليغ حمدى» تلك الحالة الإبداعية ليخرج واحد من أجمل وأرقى الألحان «كعادته» وجاء الاعتماد على الآلات الشرقية الأصيلة لتوصيل حالة الشجن التى خرجت وتجلّت فى صوت «الست شادية» التى أشعر دائماً وقت الاستماع للأغنية بأنها «تمثل» الكلمات وليس فقط تغنيها، فسبحان من وهبها تلك الموهبة فى توصيل ما تريد كيفما تريد، صوت هو الأجمل بين الأصوات، و«حس» هو الأنقى والأرقى بين الجميع، وتبقى دائماً هى الأقرب للقلب بين السابقات والتاليات لها.. وبعد كل هذا يسألوننى لماذا «قولوا لعين الشمس ما تحماشى» هى الأجمل على أذن وإحساس كل من يسمعها.
كاتب تلك الكلمات البديعة التى تحولت لأغنية أيقونية الشاعر الكبير مجدى نجيب رحل عنا منذ أيام قليلة فى صباح يوم 7 فبراير، وقبل يوم واحد من الاحتفال بذكرى ميلاد «الست شادية» يوم 8 فبراير.. وكل ما سبق ما هو إلا أبسط أنواع التكريم لهذين المبدعيْن ومعهما بالتأكيد بليغ حمدى، وكل مبدع صنع لنا تاريخاً نفخر به ونكتب عنه أجيالاً تلو الأخرى.