الأب بطرس دانيال يكتب.. المحبة تضحية

يحثّنا القديس بولس الرسول فى نشيده المعروف عن المحبة قائلاً: «لو تكَلّمتُ بلغاتِ الناسِ والملائكة، ولم يَكنْ لدىَّ محبة، فما أنا إلا نُحاسٌ يَطُنُّ أو صَنجٌ يَرنُ.. وإن لم تكن لدىَّ المحبة، فما أنا بشىء.. فالإيمانُ والرجاءُ والمحبَّةُ هى الثلاثةُ الباقية، وأعظمُها المحبة» (1كورنثوس 13: 1-13). نحتفل فى هذا الشهر بعيد الحُب، والذى يتم فيه تبادل الهدايا التى ترمز للعيد، ومن المحتمل أن يكون الحُب مبنياً على المصالح الشخصية والمجاملات، لكن المحبة الحقيقية ترتبط بالتضحية والتفانى والاعتراف بالجميل.

توجد هناك جزيرة بعيدة ومنعزلة، تعيش فيها كل الصفات والمشاعر الإنسانية: الحُب، الغِنى، الفقر، السعادة، الحزن، المعرفة، الغرور، الزمن، التعاسة، الألم، البؤس، الرقّة. وفى صباح أحد الأيام تم إطلاق صفارة الإنذار لتحذير تلك المشاعر بقرب غرق الجزيرة بمن عليها. لذلك فالمطلوب من الجميع أن يَعدّوا قواربهم للرحيل. فأراد الحب أن يثابر لآخر لحظة بينما كانت الجزيرة تغرق، إلا أنه سقط فى المياه، فقرر أن يرحل هو أيضاً، ولكن لم يكن لديه قارب، فلجأ إلى مساعدة الآخرين له.

وعندما كان الغِنَى ماراً بجانب الحُب فى قاربٍ كبير، ناداه قائلاً: «أيها الغِنَى، هل من الممكن أن تأخذنى معك؟» أجاب «لا، لن أستطيع، لأن معى كمية كبيرة من الذهب والفضة فى القارب، ولا يوجد مكان لك». فقرر الحُب أن يسأل الغرور الذى كان يمر بجانبه فى مركبٍ رائع، قائلاً له: «أيها الغرور أرجو منك أن تساعدنى». فرد عليه قائلاً: «لا أستطيع مساعدتك يا صديقى، فأنت مُبتل بالمياه، ومن المحتمل أن تُدمّر قاربى». ثم مرّ الحزن بالقرب من الحُب، فطلب منه المساعدة قائلاً: «أيها الحزن، دعنى أذهب معك». فأجابه: «آه يا عزيزى، إننى حزينٌ جداً، وأريد أن أكون بمفردى». ثم مرّت السعادة بجانب الحُب، ولكنها لم تسمع نداءه واستغاثته نتيجة فرحتها وابتهاجها. وهكذا استمر الحب فى طلب المساعدة من جميع الذين مرّوا بجانبه دون جدوى. ولكن فجأةً سمعٍ الحُب صوتاً يناديه قائلاً: «تعالَ أيها الحُب، سآخذك معى». لقد كان هذا الشخص كبيراً ومتقدماً فى العمر، وفى هذه اللحظة شعر الحُب بأنه مُبارك وسعيد جداً، حتى لم يخطر على باله أن يسأله عن اسمه وهويته. وعندما وصلوا إلى أرضٍ جافة، ذهب هذا الشخص فى طريقه ومضى، وأدرك الحُب أنه مَدين له بالكثير، ثم نظر إلى المعرفة التى كانت تتحلّى بالحكمة، وسألها قائلاً: «من ذا الذى قام بمساعدتى؟» أجابته: «إنه الزمن». ثم سأل الحُب متعجباً: «الزمن؟ ولماذا قام بمساعدتى؟» ابتسمت المعرفة وأجابت بحكمتها العميقة: «لأن الزمن هو الوحيد الذى يستطيع فهم مدى عظمة الحُب».

فالمحبة لا تموت أبداً، وكل ما نقوم به بإخلاص فى محبتنا يظل دائماً أبداً، لأن الحُب الحقيقى يُعطى من الذات لأجل سعادة الآخرين، وعندما يتملّك حُب الله علينا ويسكن فى قلوبنا، لن نتردد أبداً فى القيام بأى تضحية من أجل الآخرين، لأن المحبة لا تعرف حدوداً ولا مكاناً ولا زماناً؛ بل تتعدّى وتتخطى كل حدٍّ.

والإنسان الذى يفقد لغة الحُب مع الناس، لن يستطيع أن يقول شيئاً مهما تكلّم كثيراً، لأن حقيقة الإنسان هى الحُب، ومَنْ يُحب يتسلّح بقوة الحق فيما يقول أو يفعل، وفى النهاية سيقنع الغير، لأن كلامه وأفعاله سيكون لها أثر كبير على الآخرين. كما أن المحبة ليست دستوراً أخلاقياً للتعايش السلمى فقط، بل إنها دستور صحى أيضاً يلتزم به كل من يرغب فى أن يعيش بسلامٍ وسعادةٍ، لأن راحة البال والطمأنينة، لا تتحقق إلا فى جو المحبة وقبول الآخر ونسيان الذات فى سبيل الغير، ولا يشعر قلب الإنسان بالراحة، إلا حين يلتهب فيه الحُب نحو الجميع. والمحبة هى أسمى وأروع الفضائل الإنسانية، وتدوم دائماً أبداً، مهما كانت الظروف والعوامل الخارجية، ولا تعرف حدوداً، بل تفوق وتتخطى كل حدٍّ، والإنسان الذى يُحب لا يشعر أبداً بثقل التضحية أو التعب أو فقدان أى شىء مما يملك، كما أنه فى أتم الاستعداد للتعاون مع الجميع وخدمتهم والوقوف بجانبهم. بينما الشخص الذى يُحب، يكون أنانياً ومغروراً، ويفعل مثل المشاعر التى لم تقف بجانب الحُب وتخلّت عنه، عندما كانت الجزيرة على وشك الغرق، لأن كل واحدة منها كانت تفكر فى ذاتها فقط، ولم تعرف قيمة الحُب الذى يضحى من أجل الجميع. ونختم بالعبارة الرائعة للكاتب الفرنسى ﭼيلبير سيسبرون: «أنا أحب؛ إذاً أنا موجود».