معاهد التمريض الخاص.. بائعو الوهم!

فتاة صغيرة دامعة العينين وجدتها أمامى ترجونى أن أبحث لها عن حل لمشكلتها التى تعانى منها منذ سنوات دون جدوى.. مشكلة حين سمعتها أدركت أنها ليست مشكلة خاصة بتلك الفتاة الصغيرة بقدر ما هى مشكلة عامة تمس قطاعاً غير قليل من شباب هذا الوطن.. بل ربما تمس الوطن كله.

هى فتاة بسيطة من إحدى قرى محافظتى الصعيدية الهادئة.. ظروفها المادية العصيبة دفعتها للخروج للعمل فى سن مبكرة.. لم يكن العثور على عمل مناسب بالأمر الهين، شأنها شأن معظم خريجى الدبلومات الفنية فى مصر.. بحثت كثيراً فى كل المجالات.. وتنقلت فى الكثير من الوظائف المؤقتة التى لم تتمكن من الاحتفاظ بإحداها قط.. فلم تكن تحمل أى ميزة تجعلها مؤهلة للاحتفاظ بعمل محدّد.. حتى وقعت فى يدها تلك الورقة اللامعة التى ظنّت أنها تحمل الحل لكل مشكلاتها.

لقد كان ذلك الإعلان الذى يوزّع بكثافة فى مدخل قريتها يحمل معظم أحلامها التى تبحث عنها فى عمل منتظم محترم ودخل يكفى احتياجاتها واحتياجات أسرتها.. ويحمل الأكثر من الوعود، التى جعلتها تشعر بأن المستقبل ربما يحمل لها أفضل مما تعانى منه فى ذلك الوقت.

كان إعلاناً عن معهد «خاص» لتعليم التمريض والإسعافات الأولية.. هكذا كتب فى مقدمته بخط عريض.. كما كتب بشكل واضح أنه معتمَد من وزارة الصحة.. وأنه يمنح شهادة تفيد بصلاحية الخريج للعمل بالمستشفيات العامة والخاصة.

لم تكن مصروفاته مرتفعة مقارنة بغيره.. ولكنها كانت أزمة بالنسبة لها.. أزمة جعلتها تقترض لتتمكن من الالتحاق به لعامين كاملين.. خرجت بعدهما تحمل شهادة تفترض أنها تفيد بأنها ممرضة!

الأزمة بدأت حين حاولت الالتحاق بمستشفى عام بنظام التعاقد.. لتُفاجأ بضرورة الحصول على تصريح لمزاولة المهنة أولاً.. وهو الأمر الذى اكتشفت أنه فى عداد المستحيلات لعدم اعتماد المعهد من أى جهة من الأساس!

أعوام مرت على تلك الفتاة وهى تحاول العمل كممرضة فى أماكن كثيرة دون جدوى.. الأمر الذى اضطرها للعمل بشكل غير رسمى فى مستشفيات خاصة.. ولكن بمرتب ضعيف للغاية، على اعتبار أنها لا تحمل ما يؤهلها للعمل!

أكثر من شكوى قدمتها.. وأكثر من دعوى قضائية رفعتها تختصم فيها وزارة التعليم العالى ووزارة الصحة والمعهد المزعوم لتمكينها من الحصول على تصريح لمزاولة المهنة.. أو على أضعف تقدير للالتحاق بمعهد معتمد، استناداً إلى موقفها دون جدوى.

المشكلة أننا نعانى من أزمة حقيقية فى أعداد التمريض فى مصر منذ فترة ليست بالقصيرة.. فضلاً عن أزمة توافر تمريض «مؤهل» يدرك أبعاد عمله بشكل جيد.. ويستطيع التعامل مع متطلباته الوظيفية والفنية بشكل مناسب.. فلا توفر كليات التمريض الحالية العدد الكافى للتمريض المؤهل المدرب.. ولا تتمكن المعاهد الحكومية أيضاً من سد احتياجات سوق العمل من التمريض ذاته.. الأمر الذى كان سبباً مباشراً فى رأيى ليستغله البعض ويبيع الوهم.. ويتلاعب بأحلام البسطاء تحت مسميات وهمية وكيانات غير شرعية.. والكارثة أن منتجهم غير مؤهل بالفعل.. وفى أغلب الأحيان يتسبّب فى مشكلات لا حصر لها.. ومضاعفات كثيرة للمرضى.. دون أن يتحمّل الممرض أى مسئولية فيها، باعتباره يعمل بشكل غير قانونى من الأساس!!

أعتقد أن رقابة أكثر صرامة من وزارة الصحة ينبغى أن يتم تفعيلها لوقف عمليات النصب التى تتم على هؤلاء الشباب.. مع وضع خطة أكثر طموحاً لفتح معاهد متخصّصة معتمدة يمكنها أن تستوعب أعداداً أكبر من التى يتم تخريجها الآن.. على أن تتم دراسة ضم خريجى هذه المعاهد إليها لحل مشكلتهم.. التى وقعوا فيها بسبب ورقة لامعة!