الأب بطرس دانيال يكتب: نفرح ونحزن معاً

يقول داود النبى: «لو أن عَدوّاً أهاننى لاحتملته، ولو أن مبغضيِ تطاولَ علىّ لاتقيتهُ، بل كانت إهانتى منك يا نِدّى يا أليفى ومَوضع وُدّى، ومَنْ كنتُ وإياه أطيب العشراء نسيرُ إلى بيت الله على الصفاء» (مزمور54). يا لها من مرارةٍ وحزنٍ عندما نعيش هذه الخبرة التى فيها ينقلب الصديق والرفيق وموضع الثقة، إلى عدوٍ حاقد ومنتقم! لقد تمّ إلغاء مباراة كرة القدم عام 1937 بعد وقتٍ قصير من انطلاقها، نتيجة الضباب الكثيف الذى انتشر فى المكان، فغادر الجميع أرض الملعب باستثناء حارس المرمى سام بارترام، الذى لم يسمع صفارة حكم المباراة بسبب صخب الجماهير خلف مرماه، وظل يحرسه لمدة خمس عشرة دقيقة متحفّزاً لأية تسديدة مباغتة، وعندما أخبروه بقرار الإلغاء، قال: «لقد أحزننى كثيراً أن ينسانى ويتجاهلنى رفاقى بالرغم من أننى أحرسهم، لقد ظننتُ أننا كنّا نُهاجم طول الوقت».

كم من الوقت أهدرناه ونحن نحرس ظهوراً غادرتنا لحظة حراستها؟ وكم قمنا بالدفاع عن أشخاص هاجمونا عند أول خلاف؟! وكم أضعنا من حياتنا من أجل أشخاص لا يقدّرون تضحياتنا؟ إنه الواقع المرير الذى يعيشه الكثيرون، لذلك يجب علينا ألا نحزن أو نيأس جراء أفعال أشخاص لا يعرفون معنى الصداقة الحقيقية. وما أجمل أن نجد صديقاً يُحبّنا لذاتنا، لا لمالنا أو ممتلكاتنا وليس من أجل مصلحةٍ ما، صديقاً يقف بجانبنا وخلف ظهرنا فى كل حين، فى السرّاء والضرّاء، فى لحظات السعادة وأوقات التعاسة، فى الرخاء والضيق، ويفرح لنجاحنا وتألقنا فى الحياة، ويحزن عندما نمر بأزماتٍ أو ضيقات! فلا يستطيع أى شخصٍ العيش دون صديق أو رفيق، وإن ملك كنوز العالم.

ومع ذلك لا يوجد صديق بلا عيوب، لذلك يجب علينا أن نضحّى من أجل الآخرين، ونُحب بصدق وإخلاص، ويكون شعارنا أن نُعطى لا أن نأخذ فقط، فلا دوام للصداقة الأنانية. فأعظم عطية نحصل عليها من أصدقائنا، شخصهم وليس ما عندهم، لأنها ليست مبنية على عَقْد، بل اتحاد بين الطرفين. ولا تعتمد على التملّك والاستحواذ؛ ولكن وجود الواحد من أجل الآخر. لذلك تحثنا الكتب المقدسة فى التأنى والحكمة عند اختيار الصديق قبل الوقوع فى الفخ: «إذا اتخذت صديقاً، فأتخذه بعد الامتحان ولا تثق به سريعاً» (يشوع بن سيراخ 7: 6).

وهناك أنواع كثيرة من الصداقة، ولكن للأسف نادراً ما نجد فيها الصداقة الحقيقية، ومن أمثال ذلك: صداقة اللحظة والتى تُعرف بالمصلحة الوقتية، وصداقة المنفعة والتى فيها يتردد الشخص علينا كلما احتاج إلى شىء، وصداقة المناسبات وفيها يبحث الصديق عنّا ليملأ وقته، وصداقة الدراسة التى يقترب فيها الصديق للحصول على معلومات دراسية، وصداقة الثرثرة وهدفها نقل الكلام من شخصٍ لآخر بمقدار النفع العائد منها. ولكن الصديق الحقيقى هو الذى لا يتخلّى عنّا أبداً مهما كانت ظروف الحياة، ونجده فى وقت الفرح والحزن، الغنى والفقر، الصحة والمرض، ولا ينتظر مقابلاً لمحبته، فالصديق عكس الثياب، كلما كان قديماً كان أمتن.

وهنا نتساءل: «ماذا نفعل تجاه الصداقة المزيفة؟» لنقرأ كلمات الأم تريزا مؤسسة راهبات المحبة التى كتبتها على جدار منزلها بمدينة كالكوتا بالهند: «غالباً ما يتصرّف الناس تصرفاً أنانياً وبدون تفكير ومنطق؛ على كل حال اغفر لهم. وإذا كنتَ لطيفاً، قد يتهمك الناس بأنك غبى، ومع ذلك كُن لطيفاً. وإذا كنتُ ناجحاً، فستكسب بعض الأصدقاء الكَذَبة وبعض الأعداء الحقيقيين، وبالرغم من ذلك اسعَ إلى النجاح. وإذا كنت صادقاً وصريحاً فقد يخدعك البعض، ومع ذلك كُن صادقاً وصريحاً. ما قمت ببنائه طوال سنوات عديدة، قد يدمّره شخص بين عشية وضحاها، على كل حال استمر فى البناء. إذا وجدت الطمأنينة والسعادة، قد يحسدك عليها الآخرون، ومع ذلك كُن سعيداً. الخير الذى تفعله اليوم، قد ينساه الناس غداً، على كل حال افعل الخير. تعطى العالم أفضل ما لديك، وربما لن يعتبروه كافياً، ومع ذلك أعطِ العالم أفضل ما عندك. ولا نستطيع أن ننسى المفارقة الغريبة التى تحدث مع معظمنا، وهى أنه من السهل أن نشارك الأصدقاء آلامهم وأوجاعهم ومشكلاتهم؛ لكن من الصعب أن نفرح معهم لنجاحهم وتفوّقهم، وهنا نستطيع اختبار مقياس المحبة الصادقة، والتى لا غش فيها، لأن الكثيرين يُغذّيهم الحقد والغيرة عندما يشعرون بنجاح الآخر وتفوّقه وزيادة ثروته. إذاً يجب أن نضع فى الاعتبار أن اكتشاف الصديق الحق، ليس بالأمر الهيّن. ونختتم بالقول المأثور: «العالم من دون أصدقاء، صحراء قاحلة».