مقاهي "باب اللوق".. حكاية الجد "عبدالفتاح" وصندوق الورنيش من الخمسينات

مقاهي "باب اللوق".. حكاية الجد "عبدالفتاح" وصندوق الورنيش من الخمسينات
- السيدة زينب
- باب اللوق
- شارع منصور
- شوارع العاصمة
- السيدة زينب
- باب اللوق
- شارع منصور
- شوارع العاصمة
- السيدة زينب
- باب اللوق
- شارع منصور
- شوارع العاصمة
- السيدة زينب
- باب اللوق
- شارع منصور
- شوارع العاصمة
في الميدان الفسيح، المشيدة بناياته على الطراز المعماري الفرنسي، يقف الرجل شامخا شموخ تمثال "محمد فريد" القابع في وسط الميدان، يضع إحدى قدميه على صندوق خشبي، يصبغ حذاءه بصبغة الأيام، يلتفت حوله لصوت دقدقة فرشاة لشباب صعيدي على الصناديق، طلبا لرزق، يأتي من تزاحم أقدام الرجال ذهابا إيابا في شوارع العاصمة، تاركين أرض نضب الخير منها فأصبحت الأمعاء خاوية، والأجساد واهنة، والأيدي "بطّالة" في صعيد عم به القحط والفقر والمرض، فعبروا بوابته الجنوبية إلى بوابات مقاهي وسط القاهرة من أجل لقمة عيش، كانت يداه المغروسة في الطين تطعمنا بها، فصارت مغموسة في الصبغة لوجاهة أحذيتنا، كبرياؤه يمنعه من الحديث، فيرفض بدماغه الأصلب من الحجر حديث الكاميرا، وبلهجته الصعيدية "إبعد يا أبو عمو الله يسهلك".
يردك "الصعيدي"، فتتجول كضيف ريفي غريب على القاهرة في حواري "باب اللوق" القديمة، وكلما مررت من تقاطع طريق يسأل أهل المنطقة عنه، يمضي جولته بين شوارع رئيسية معبدة للسير، وأخرى متعرجة تسكن فيها برك مياه، جاءت من يوم ممطر سابق، أو من بالوعة صرف صحي طفحت بما فيها بالشارع، ولكن المعيشة مستمرة، الناس ترص الطوب وقوالب من البلاط في بركة المياه، وتسير عليها بحركات بهلوانية، وأبواب الرزق مفتوحة، فالمقاهي أبوابها على مصرعيها، ومصطفة على جانبي "شارع منصور"، وأمام إحداها يرقد العجوز الثمانيني منكبا على وجهه، يحتضن صندوقه الخشبي، فهو له بالدنيا وما فيها، تقترب منه فتجد وجها خمريا رسمت تجاعيده خريطة حقبة زمنية تحكي 6 عقود مضت، وأسنانا تساقطت كورقات صفراء ذابلة تركت الشجرة العجوز في خريف عمرها، ونظر يسترجعه بعوينات طبية يرى ما حوله من وراءها، وشارب أبيض خفيف يعطيه هيبة الشيخ الكبير.
يأتي عبد الفتاح محمد عبد الله، لمطرحه أمام المقهى البلدي، المجاور لمقهى "الطباخين" الشهير بين أبناء باب اللوق، مرتديا جلبابه البلدي البالي، ومن تحتها الصديري، وعلى رأسه الطاقية الصوف لتحمي فروة رأسه من برد الشتاء، يتحدث بصوت متهدج، وكلمات تخرج من فمه بعناء ومشقة، كعناء النفس الذي يشتمه من الهواء، ويعلو به صوت صدره وسعاله "شغال في المهنة دي من سنة 54، وكنت الأول بجري وبتحرك، بس من ساعة ما كبرت مبقدرش أمشي، الحمد لله، القعدة هنا أحسن من البيت، لو نمت في البيت أتعب، آجي هنا من الساعة 8 ونص الصبح أمشي بعد العشا الساعة 7 ونص، وعلى حسب الرزق، يمكن أنا رزقي يكتر، يجيلي شغل ساعات أقعد لـ10 - 11 بالليل".
"زباين القهوة زمان كانت ناس محترمة وتخاف على البني آدم، دلوقت في العهد اللي إحنا فيه كله مشي حالك"، يتحدث "الجد عبدالفتاح" عن المهنة في عصر البكوات والبشوات، فيقول "أنا عاصرت آخر كام سنة من عصر فاروق، وكنت ساعتها سيبت سوق السمك في السيدة زينب، وكنت ببيع فيه، وجيت هنا اشتغلت في الورنيش، وكان الناس وقتها فيها خير، والشارع هنا كان فيه ناس زي النمل لحد الساعة 2 بالليل، وكان البشوات يبعتولي مع الخدمين جزمهم وبلمعها، طبعا مكانوش يجولي هنا القهوة، دي منطقة مهما كانت شعبية، هما عايزين الأماكن الرايقة".
"القهوة باب رزقي ومصدره، الزبون يجي هنا ويطلبني بالاسم"، يتحدث العجوز عن المقهى، الذي يشكل أهمية في حياته ومعيشته، ومعزة خاصة على قلبه، فيجلس على بابها يسترجع ذكرياته مع أهالي الحي البسطاء، منهم "جدعان ماتوا"، ومنهم من بقي يستعيد شريط عصور مضت من "ملكية" لـ"جمهورية"، ومن "الأمراء" وحتى "الباشوات" و"البكوات" و"الأفندية"، حتى أصبحت تلك الألقاب مجرد حذاء بلى بعد سنوات، وبقيت بقع "الورنيش" على فرشاة "عبدالفتاح".