الأب بطرس دانيال يكتب: الميلاد الحقيقي

رنّمت الملائكة مع ميلاد الطفل يسوع: «المجد لله فى الأعالى وعلى الأرض السلام وللناس المسرّة». ما أجمل هذه الأنشودة التى تحمل معها السلام الحقيقى للعالم أجمع، وتمنح كل شخص السعادة التى لا يستطيع أى إنسان أن ينزعها من قلوبنا. لقد أتى عيد الميلاد المجيد هذا العام فى أجواءٍ ملبّدة بالحزن والكآبة نتيجة الصراعات والحروب فى بلاد كثيرة كالأراضى المقدّسة وأوكرانيا ولبنان والسودان واليمن ودول أفريقية وغيرها. أصبح الإنسان للأسف يعيش فى غابة تسكنها الوحوش الضارية، حتى إن أعداداً غفيرة خرجت من جحورها وانتشرت فى كل مكان، حاملة معها الدمار والخراب دون رحمة ولا شفقة. وبدلاً من أن نجد طيور السلام والوداعة تحلّق من حولنا، شاهدنا أشباحاً تطير لتنقض على فريستها، مما جعل أماكن كثيرة تتحوّل إلى خرائب وأطلال، بدلاً من الحدائق.

لذلك يجب على كل شخص منّا أن يحمل معه الرسالة الحقيقية لعيد ميلاد السيد المسيح، وهى السلام والمحبة والأخوّة، وأن نزرع كل ما هو خيِّر فى كل مكان تطؤه أقدامنا. يُحكى أن إحدى السيدات الأنيقات والمهذّبات كانت تركب القطار فى كل سفرياتها، حتى إنها كانت تنثر من نافذة القطار بذوراً صغيرة تحملها فى حقيبة يدها، وكانت تكرّر هذا مرات كثيرة، مما اضطر المسافرين معها فى القطار نفسه إلى الاندهاش، فسألها أحد المتطفلين عمّا تقوم به، فأجابته مبتسمة: «أنا أنثر هذه الحبوب منذ عدّة سنوات أثناء سفرى، فقد عاهدتُ نفسى ألا أركب القطار دون أن أنثر من نافذته الكثير من البذور والحبوب، لا سيما فى الأراضى الجرداء. انظر هناك، ألا ترى تلك الزهور والأعشاب التى تزيّن الطريق؟ لقد قُمتُ بالفعل ذاته منذ سنوات، ونحن الآن نتمتّع بجمالها، لأنها تُبهج عيون الذين ينظرون إليها، وتبعث فى نفوسهم الحزينة سعادة لا مثيل لها».

إذاً مع الاحتفال بأعياد الميلاد والعام الجديد، نستطيع أن نقوم بالفعل ذاته مع كل مَنْ نتقابل معهم. ما أكثر النفوس الجرداء على طريق الحياة، إنها نفوس استبد بها اليأس، وأظلمت الحياة أمامها، إذاً يجب علينا أن ننثر فيها بذور الأمل والتفاؤل والسعادة! كما أنه من الواجب أن ننثر بذور التسامح والصفح فى القلوب التى تعشّش فيها الأحقاد والكراهية ورفض الآخر، وأن نزرع حبوب المحبة فى النفوس التى تلدغها الغيرة والحسد، وأن ننثر بذور المسئولية والاعتماد على النفس، بدلاً من الاتكالية وروح التذمّر والشكوى. ما أجمل الذين يتحلّون بقلوبٍ رحيمة، تشعر باحتياج الآخرين، وهم على أتم الاستعداد للوقوف بجانبهم مهما كلّفهم الأمر. وكم هو رائع أن نبدّل أحزان الناس إلى أفراح، عندما نشاركهم فيما يشعرون به، ونتخذ شعاراً لنا «لنزرع ولا نقطع». لنزرع كل ما هو جميل فى حقول القلوب والنفوس، نزرع الإيمان بالله فى داخلنا، لنسند الضعفاء ونشجّع الخائفين، «لنزرع ولا نقطع». حُبّنا لله والقريب، لأن الحُب هو مصدر وينبوع الخير الذى يحمل معه البركات والنّعم التى تمنحنا السعادة الحقيقية. «لنزرع ولا نقطع» أفضل ما نملكه من أفكار وأسمى المبادئ وأحلى الآمال وأنبل الطموحات.

كيف نستطيع الاحتفال بعيد الميلاد، فى اللحظة التى تقابلنا فيها مع أشخاص كانوا فى أمس الحاجة إلى يد المعونة، ولم نلتفت إليهم؟ كيف نستطيع أن نفرح ونأكل ونشرب فى احتفالات عيد الميلاد، فى الوقت الذى فيه أبرياء وأطفال لا يجدون ما يسد جوعهم ويروى ظمأهم؟ وكم من مبالغ باهظة أنفقناها فى الاحتفالات والمناسبات، رغم أن هناك ملايين البشر يموتون جوعاً، لأنهم لم يجدوا المأكل أو المشرب أو الغطاء الذى يقيهم من البرد؟ لن يتغيِّر العالم الذى نعيش فيه للأفضل، إذا لم يشعر كلٌّ منّا باحتياج الآخر ويمد يد المعونة له، خلاف ذلك ستزداد الهوّة بين البلاد والطبقات المختلفة. لذلك نقول لبابا نويل هذا العام: «لا تُجهد نفسك من أجل اختيار الهدايا، لأنها لا تخدمنا كثيراً. ولكن نطلب منك أن تحمل شنطة كبيرة مليئة بآمال جديدة، وسلام فى كل مكان، واحترام بين الشعوب، ومحبة متبادلة لا شائبة فيها ولا مصلحة. وتستطيع أن تضيف بعض البذور النادرة فى حياتنا، وهى ثمار السعادة، لتمسح الدموع فى العيون، ولا تنسَ أن تضع جرعة كبيرة من الإيمان لهذا الزمان الذى نعيشه». لا تكفى الزينة الخارجية للاحتفال بعيد الميلاد؛ ولكن يجب أن نتغير داخلياً وننقى قلوبنا وأذهاننا ونفوسنا، حتى نحتفل بالميلاد الحقيقى الذى أهنئ به جميع الناس. وكل عام ونحن جميعاً بخير وسلام ومحبة وأخوّة.