الأوضاع في غزة بعيون وائل الدحدوح: باقون على أرضنا.. ولن نستسلم للأوجاع (حوار)

كتب: رحاب الخولي وفوزية عبيد

الأوضاع في غزة بعيون وائل الدحدوح: باقون على أرضنا.. ولن نستسلم للأوجاع (حوار)

الأوضاع في غزة بعيون وائل الدحدوح: باقون على أرضنا.. ولن نستسلم للأوجاع (حوار)

ليس هناك أقسى من فقد الولد.. فماذا إن كان اثنين وأمهما والحفيد الذي لم يتجاوز العام، تحطمت العائلة في هجوم غادر لعدو جبان ينسف الأرض بأهلها، وقعت المصيبة الكبرى على رأس المراسل الصحفي الزميل وائل الدحدوح، دفعة واحدة.

صمد «الدحدوح» وبكى أحبابه، وبعد ساعات، فوجئ به العالم وقد رمم نفسه ووقف كالجبل ينقل رسالة فلسطين إلى العالم، مستعدا لتحمل أي ثمن من أجل الحقيقة.

لم تنته فواجعه عند هذه الخسارة الفادحة، فبين يديه سالت دماء صديقه المصور سامر أبو دقّة في مهمة عمل، وبكل ما في المرء من شجاعة وفداء وقف والضمّادة لا تزال تلف يديه يمسك بالميكروفون ناقلا رسالة فلسطين وغزة وأهلها لفضح جرم تاريخي يُرتكب بحق شعب أعزل، يعمل الموت في قطاعهم لأوقات إضافية، وغيرها من المواقف والمشاهد الكاشفة لما يفعله الصحفيون في ميدان المعركة، يوضحها «الدحدوح» في حواره لـ«الوطن»..

* في ظل صعوبة وضغوط عملك كصحفي.. حدثنا عن وائل الدحدوح الأب؟.

من الصعب الحديث عن وائل الأب، خاصة في وقت الحروب، أنا إنسان أعتبر نفسي صاحب عاطفة جياشة وحنان وعطف كبير.

الأوضاع في غزة كارثية.. الدمار مخيف في كل مكان 

* صف لنا الأوضاع في غزة؟.

الأوضاع في غزة كارثية وصعبة للغاية، نتيجة استمرار القصف والحرب لثلاثة أشهر تقريبا بشكل متواصل، يوجد نحو 22 ألف شهيد و8 آلاف مفقود، وعشرات الآلاف من الجرحي، إضافة إلى دمار هائل ومخيف في جميع المناطق، خاصة مدينة غزة وشمال القطاع، مع وجود عملية برية عسكرية، وإعدامات واعتقالات.

وبالطبع هذا الأمر أنتج واقعا مؤلما جدا، وهجرة هائلة، ونزوحا قسريا كبيرا، واستهدافات خلال التهجير والنزوح، وإعدامات، وخلَّف النزوح واقعا إنسانيا مُرا؛ فالناس لا يجدون مأوى.

المخيمات الموجودة لا تكفي المشردين

* ماذا عن الحياة في المخيمات؟

مئات الآلاف يعيشون في خيام، بعضها مشغول باليد والآخر من القماش النايلون أو الأخشاب، ومعظمها لا يقي من حر الشمس ولا برد الشتاء والأمطار، نحن في ذروة فصل الشتاء، والفراش الموجود لا يكفي أصلا للمشردين، والآخر يتعرض للمياه، وبالتالي المعاناة مستمرة لحظة بلحظة، ولا توجد حلول تلوح في الأفق، يتبع هذا الأمر أنّ الناس لا يجدون الطعام والشراب بشكل حقيقي وجدّي، وفي أوقات كثيرة لا يستطيعون توفيره.

* حدِّثنا عن المساعدات الإنسانية المقدمة؟

في بداية الحرب أغلقت إسرائيل المعابر، وقصفت «رفح الفلسطينية» كي تعيق إدخال المساعدات، وبعد استئناف إدخال المساعدات وإجراء الصيانة اللازمة دخلت شاحنات مساعدات بشكل محدود جدا، ورغم زيادة الأعداد، لكن ما يدخل إلى قطاع غزة حتى الآن غير كافٍ، الأمر لا يتعدى عشرات من الشاحنات، والمساعدات تشكل 10% أو أقل من احتياج السكان الذين يصل عددهم إلى مليونين و300 ألف شخص في القطاع دون مأوى ولا طعام ولا شراب، وعلى النقيض، قبل الحرب كانت تدخل 600 شاحنة إلى غزة محملة بكل الاحتياجات الإنسانية اللازمة، رغم وجود قائمة كبيرة من الممنوعات.

* ما الذي تضمّه شاحنات المساعدات التي تدخل القطاع؟

هناك أصناف محددة ومحدودة من حيث العدد والكميات، وهذا الأمر يجعل الناس على قيد الحياة لكن لا يغيثهم ولا يوفر لهم حياة كريمة، ما فاقم المعاناة وتسبب في نشوب ظواهر جديدة مثل غلاء المعيشة، فالاحتياجات التي كانت متوفرة على سبيل المثال الدقيق الذي يزن 25 كيلوجراما وصل سعره إلى 500 شيكل أي نحو 150 دولارا، وهو غير موجود أيضا.

* كيف يجري توزيع المساعدات؟

يصطف الناس في طوابير لمدة 3 أيام، وأحيانا تصل إلى 5 للحصول على كيس دقيق، وقد يصل الدور إليهم وتكون الكمية انتهت، ولا يحصلون على أي شيء.

شحّ المياه في غزة

* ماذا عن المياه الموجودة حاليا؟

هناك شحّ كبير في المياه، والمتوفر منها لا تنطبق عليه مواصفات الجودة، ولكن المهم أن تكون موجودة، وهذه وجهة نظر جميع السكان.

* ما موقف الخدمات الأخرى مثل الكهرباء والبنزين والسولار؟

الكهرباء مقطوعة بالكامل، والبنزين أصبح من الممنوعات، وأسعار السولار ارتفعت جدا، وهو غير متوافر في المحطات للبيع بشكل عام، وإنّما لبعض الأغراض المحددة والحيوية وبعض المؤسسات الإنسانية فالواقع أصبح مرا جدا.

المنظومة الصحية في غزة منهارة

* صف لنا الوضع الصحي في غزة حاليا؟

الوضع الصحي كارثي جدا، فالمنظومة شبه منهارة خصوصا في شمال غزة والجنوب يعاني ويترنح، والمرضى والجرحى أعدادهم بالجملة يتكدسون في المستشفيات، والكادر الطبي استنزف، والبعض استشهد أو سافر، والأجهزة الطبية تعرضت لخلل فني لا يمكن صيانته، وهناك حديث عن وفود طبية من الخارج، إلا أنّها لم تدخل غزة حتى الآن.

وجرى تحويل أعداد محدودة من الجرحى للعلاج في الخارج، وهناك آلاف الفلسطينيين كتبت لهم تحويلات للعلاج خارج غزة، ولكن أعدادا قليلة منهم خرجت بالفعل.

الصحفيون دفعوا ثمن الحرب على غزة مرتين

* ماذا عن معاناة الصحفيين في غزة؟

بالنسبة لنا كصحفيين دفعنا الثمن مرتين أو أكثر؛ مرة كصحفيين باعتبار الأخطار التي نواجهها، والتي تستهدفنا، فاستشهد 107 صحفيين حتى الآن، وأسرنا وبيوتنا استهدفت، ومكاتب وسيارات وأجهزة بنا دمرت.

الأخطار التي نتعرض لها كصحفيين عندما نذهب إلى الميدان قائمة على مدار اللحظة، الصحفي الفلسطيني أصبح في لحظة من اللحظات جزءا من المواطن الفلسطيني، عاش حالة النزوح والهجرة القسرية وفقد المأوى والمنزل والسيارات والمعدات.

نعيش من هجرة إلى هجرة

في غزة نعيش من هجرة إلى هجرة، على سبيل المثال من نزح أو هاجر عن مدينة غزة لم يتمكن من اصطحاب معداته معه، وبالتالي هاجر أسوة بغيره من الناس، مثلهم مثل المواطنين الفلسطينيين، وهذا أمر جعله يخسر جزءا مهما وكبيرا من إمكانياته، وبالتالي حتى موضوع الدعم اللوجستي بشكل كامل غير متوفر.

يعمل الصحفيون في جمع المعلومات والاستعداد للمقابلات على الهواء مباشرة، وضخّ المعلومات للجميع، لكننا نعمل بشكل مستمر ربما يفوق عملنا في الصحافة، لتأمين بعض الأمور اللوجيستية مثل رغيف الخبز ومياه الشرب وخيمة للنوم والراحة أو لأغراض العمل.

يداهم الشتاء الخيمة فنعود إلى التشرد، نحاول ترقيعها أو توفير غيرها، نبدأ البحث عن بعض أصحاب الحرف لصيانة الخيمة أو صنع أخرى جديدة؛ فعلى مدار اللحظة واليوم والثانية المعاناة مستمرة جدا.

الصحفي الفلسطيني دفع ثمنا باهظا وعلى أوسع نطاق، دفع ثمن كونه إنسانا وجزءا من المجتمع له أسرة وزوجة وأبناء وأم وأخ وجار وصديق وقريب، يخافون عليه ويخاف عليهم، وفي كثير من الأحيان لا يستطيعون التواصل معا وتستمر حالة القلق والخوف، وأحيانا يصور له أنّ بعض أقاربه من بين الشهداء والجرحى يتحدث عن قصف منزل، يتفاجأ أنّ المنزل هو مكان نزوح أسرته، كما حدث معي شخصيا على سبيل المثال، هذه أمور مؤلمة للغاية، لذلك الصحفي الفلسطيني في هذه الحرب عاش ظروفا قاسية وكمواطن فلسطيني عاش ظروفا أكثر قساوة.

* قلت في تصريحات سابقة إنّك وزميلك سامر أبو دقة كنتما في مهمة خلال إصابتك واستشهاده.. حدثنا عن هذه المهمة؟

أنا وزميلي سامر كنا في مهمة رسمية للتصوير، وكان هناك يوجد تنسيق عن طريق الصليب الأحمر وموافقة إسرائيلية، وذهبنا إلى المكان برفقة سيارة إسعاف للدفاع المدني الفلسطيني والذي حصل على التنسيق والموافقة، وقضينا 3 ساعات في المكان وانتهينا من التصوير.

عندما بدأنا العودة باتجاه سيارة الإسعاف ومنها إلى مستشفى ناصر، جرى استهدافنا بشكل مباشر بصاروخ من إحدى الطائرات المسيرة، ما أدى إلى استشهاد 3 من الدفاع المدني، وإصابتي أنا وزميلي سامر، حاولت أن أساعده لكني لم أتمكن، كنت سأفقد حياتي بفعل النزيف الغزير الذي كنت أعاني منه، وإصابة سامر كانت خطيرة، خشينا استهدافنا بصاروخ آخر كما جرت العادة لمثل هذا النوع من الاستهدافات والغارات.

في نهاية المطاف قررت التوجه إلى تمركز سيارة الإسعاف والتي تبعد نحو 800 متر في محاولة لإنقاذ حياتنا، فكرت في أنّه حال نجحت فهذا شيء ممتاز، وإن لم أنجح أكون كسبت شرف المحاولة، لكن بفضل الله تمكنت وأجريت لي الإسعافات الأولية، وطالبت الدخول إلى مكان انتشال زميلي، لكن المسعفين قالوا لي يجب إنقاذ حياتك أولا، ثم التنسيق مع سيارة إسعاف أخرى لإنقاذ حياة زميلك، لكن التنسيق استغرق نحو 6 ساعات، ودخلت سيارة الإسعاف لانتشال جثمانه وجدنا أنه جرى استهدافه مجددا بصاروخ آخر بعد أن كان قد تحرر من درع الصحافة وزحف في محاولة لإنقاذ حياته لكنه لم يتمكن من ذلك.

* بعد استشهاد عدد من أفراد أسرتك وتعرضك للإصابة.. هل ندمت على الاستمرار في غزة بعد خروجك من المعتقل؟

لا أتخذ قرارا وأندم عليه، وبالتالي وجودي في غزة بالنسبة لي مصدر راحة، وربما كانت لدي فرص كثيرة في أماكن عمل أخرى خارج فلسطين أو قطاع غزة، ولكنني سعيد جدا بالعمل هنا رغم الأثمان التي ندفعها، أنا مرتبط جدا بمسقط رأسي، وأحاول ما استطعت إلى ذلك سبيلا توفير الحد الأدنى من العيش الكريم للمنطقة، لكن بالتأكيد الأوضاع في الحرب مختلفة تماما وأفرزت أوضاعا ونتائج مختلفة عما شاهدناه طوال السنوات الماضية.

* صف لنا الأوضاع في سجون الاحتلال الإسرائيلي؟

من الصعب الحديث بالعودة إلى الوراء، لكن السجن دائما ظروفه قاسية وصعبة، السجين محروم من كل شيء، وأبسط وأهم شيء يمتلكه الإنسان وهو الحرية، وبالتالي السجن صعب وازداد سوءا ربما في ظل هذه الأيام والشهور والسنوات القليلة الماضية بفعل السياسات الإسرائيلية التي تستهدف المعتقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال.

* ما الدرس الذي تعلمته من المعتقل؟

السجن ترك بصمته على شخصيتي، أمضيت فترة طويلة نسبيا في غياهب السجون وخلف القضبان، وتعلمت درسا واحدا وهو أنّه لا يوجد مستحيل، الأمل دائما موجود سواء كنت داخل المعتقل الصغير لدى الاحتلال الإسرائيلي أو في المعتقل الأكبر بقطاع غزة الذي تحاصره قوات الاحتلال الإسرائيلي.

* بماذا تواسي أبناءك بعد وفاة والدتهم؟

لا توجد كلمات يمكن أن تواسي الأبناء بعدما فقدوا الأم التي تعتبر عمود الخيمة وعمود البيت، أقول دائما إنّها الوطن، وعلى أي حال هذا قدرنا وواقعنا وعلينا أن نرضى به ونسلم ونتعامل معه، وألا نستسلم لوجعه ومعاناته، وهذا هو الأهم والتحدي الكبير.

* ماذا عن أمنية وائل الدحدوح في العام الجديد؟

أسأل الله أن يربط على قلوبنا، ويمدنا بأسباب النصر والصبر والتحمل والقوة، وأن تنتهي الأوضاع الصعبة على خير، ويعيش أبنائي والفلسطينيون جميعا الحد الأدنى من الحياة بعيدا عن الخوف والقلق والتوتر والآلام.

* وجِّه رسالة للشهداء من أسرتك وأصدقائك؟

فقدان الأسرة والزملاء شيء مؤلم، لكن إن كان لنا من رسالة وسلوى وعزاء فهو أنّنا بفضل الله كنا أوفياء للحد الأدنى من رحيلهم وذكراهم، بأن واصلنا جهودنا وعملنا، ولن نستسلم للحزن ولن نتوقف، وهذا هو الوفاء من وجهي نظري، والمتاح في أيدينا وأمامنا استثمرناه على أكمل وجه بالشكل الذي أعتقد أنّهم راضون عنه، هذا يشعرنا بالفخر وراحة الضمير، ونتمنى أن نلتقي بهم في مستقر رحمته عز وجل.


مواضيع متعلقة