المسيح فى ساقية الصاوى
«مصر تتعافى».. معنى قفز إلى ذهنى وأنا أطالع دعوة من شباب مصرى واعد لحضور احتفالهم السنوى بعيد القيامة المجيد، ليس بسبب الاحتفالية لكن لأنها تقام خارج أسوار الكنيسة، وتشتبك بإيجابية مع المجتمع بغير حساسية أو توجس، فيما أحسبه من التداعيات الإيجابية لثورة الشعب فى موجتيها (25 يناير و30 يونيو)، التى خرجت بالكنيسة إلى الوطن، وتأكد المعنى عندما ذهبت إلى «ساقية الصاوى» حيث الاحتفالية، وهو مركز ثقافى جسور يعتبر أول المراكز الثقافية الخاصة فى مصر، فى عصر ما بعد الثقافة الحكومية.
أصحاب الدعوة هم الجيل الثالث المنبثق من أسرة القديس أغسطينوس الجامعية التى تأسست قبل نحو خمسة عقود، بمبادرة من الدكتور مكرم مهنى، وهو بعد طالب بكلية الصيدلة، ضمن منظومة الأسر الجامعية التى كانت ضمن فعاليات أُسقف الخدمات، دينامو ورائد العمل الاجتماعى الكنسى المؤسسى، الأنبا صموئيل (1962-1981) فى سعيه لاستكمال رسالة مدارس الأحد فى طور الشباب، وبما يتفق ومعايير المرحلة السنية والكنسية والعامة، وفى مواجهة رياح ثورة الشباب فى الغرب التى اقتحمتنا بعنف وقتها، فى مطلع ستينات القرن العشرين، ومن الأسرة الجامعية يولد الكورال، الذى يكتشف المواهب الفنية بين أفرادها ويصقلها، ويتبنى الفن جواز مرور للتواصل مع المجتمع، ويضع يده على مفتاح المزج بين ما هو مجتمعى وما هو روحى، وعبر تاريخه نلمس بصمات الفنان الدكتور فيصل فؤاد المرنم، ثم يشهد قفزة نوعية تعيد تجديد شبابه على يد مؤسسه الثانى الدكتور هانى صابر ليصبح تجمعاً تنويرياً ينشر الاندماج ويكسر الحواجز ويعيد إحياء قيم المحبة والقبول المتبادل، من خلال تضمين ما يقدمه رسالة تترجم قيم المسيحية التى يحتاجها المجتمع بجملته لتفعيل التواصل دون تطرف أو طائفية.
كانت لفتة رائعة من المهندس محمد الصاوى، مؤسس «الساقية» وقد استوحى اسمها من أروع أعمال والده الأديب الروائى عبدالمنعم الصاوى، أن يقف فى افتتاح الاحتفالية ليحتفى بشباب الكورال ويحيى مبادرتهم ويرحب بهم، فتتجلى إمكانية أن نسترد المساحة المشتركة بين كل المصريين، ونتأكد مجدداً أن الفن هو سفير التواصل ومقاومة قبح التطرف.
كان النيل حاضراً ففوق صفحته تقوم الساقية، وعلى مسرحها تنساب التراتيل تحكى قصة الحب الإلهى، وتدعو للتوبة والعودة إلى دائرة الإيمان السوى الذى لا يمكن أن يستقيم دون أن يتسع القلب بالحب للإنسان لكونه إنساناً، هكذا تكلم المسيح، وذهب إلى أقصى نقطة فى دعوة الحب، حتى إلى الموت حباً، وبه انتصر، وما زالت دعوته يرددها الزمن وتتناقلها موجات النيل الهادئة من قلب مصر.
بين خشبة المسرح وقاعته نتبادل مشاهد التيقن من استرداد مصر عافيتها بعد عقود من محاولات التجريف المتعمدة لقيمها الراقية، فعلى المسرح ترى شباباً واعداً وأصواتاً صافية لبنات يقفن فى مرحلة العشرينات، يتبادلن الشدو مع شباب ينشرون البهجة والثقة، وفى القاعة تلتئم الأسر وتتجاور الفتيات المحجبات وأسرهن مع صديقاتهن المسيحيات فى تفاعل وجدانى مع ما تحمله الكلمات والأداء الموسيقى الذى يتهادى وكأنه خارج لتوه من النيل العبقرى سر المصريين ورابطهم الأزلى الأبدى.
كنت مشغولاً فى طريق العودة بالسؤال عن غياب المجتمع المدنى عن مساحة التنوير بالفن، الذى يعظم مشتركات الوطن ويرتقى بها، وغياب المستثمرين عن دورهم المجتمعى فى هذا الإطار الذى سينعكس إيجاباً عليهم، فعندما يرقى المجتمع ويحل الفن محل القلق، والإبداع محل الإرهاب، تتوافر البيئة الاستثمارية التى تحمى مشروعاتهم، وتسمح لها بالنمو والنجاح، قد يحتاج الأمر إلى تثوير القوانين المنظمة للأنشطة الفنية باعتبارها واحدة من القوى الناعمة لمكافحة التطرف والإرهاب.. الكرة فى ملعب الدولة.