غزة واليوم التالي من الحرب

جيهان فوزى

جيهان فوزى

كاتب صحفي

سأبدأ من حيث انتهى محرر الشئون الدولية فى الـ«بى بى سى»، «جيريمى بوين»، الذى قال: «يبدو المستقبل فوضوياً وخطيراً، فالحرب فى غزة لن تنتهى بشكل جيد»، بالتأكيد الوضع القائم على الأرض فى قطاع غزة قاتم ومؤلم وبائس ويدعو للإحباط واليأس، لكن عندما نتابع سير المعارك العسكرية التى تخوضها المقاومة الفلسطينية مع جيش الاحتلال الإسرائيلى، فإن المشاعر تتبدل فوراً من الإحباط إلى الفخر.

ما نراه من ثبات وبطولة وإنجازات تحققها المقاومة الفلسطينية فى الميدان ينعش حلم التحرير المدفون داخلنا منذ عقود، ويُحيى بريق الأمل بأننا قادرون على تغيير الوضع الاحتلالى المذل الذى أرادت إسرائيل أن يستمر، إن لم يكن زحزحته نحو الأسوأ، بمعنى أن إسرائيل وقادتها المتطرفين جاهروا بخططهم المخبأة فى الأدراج المغلقة منذ سنين إلى أن يحين وقت التنفيذ، إسرائيل نقية يهودية خالصة، والفلسطينيون لا بد أن يهجَّروا ليس فقط من قطاع غزة، بل من الضفة الغربية أيضا.

وهو ما يتم تداوله بشدة هذه الأيام فى أروقة الحكم، سواء فى إسرائيل أو الولايات المتحدة الأمريكية أو الدول الداعمة لإسرائيل وعلى رأسها بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا.

غير أن صمود المقاومة الفلسطينية وبسالتها الأسطورية فى الدفاع عن غزة على مدار ما يقارب السبعين يوماً، فاجآ العالم وجعلاه يتراجع عن موقفه، ويعيد النظر فى إمكانية تنفيذ مخطط التهجير، ويبدّل قناعاته المتكئة على أن طرد الفلسطينيين ومحو القضية الفلسطينية من الوجود السياسى والجغرافى أمر ممكن.

نعم، يبدو المشهد فوضوياً وغامضاً، فما زالت الحرب مستعرة ولم تضع أوزارها بعد، والجيش الإسرائيلى أظهر هشاشة فى بنيانه فاجأت العالم، فلم يكسب معركة واحدة حتى الآن يقدمها كانتصار إلى الإسرائيليين المتعطشين لدماء الفلسطينيين.

إن مناقشة اليوم التالى بعد الحرب الذى يدور فى الكواليس محفوف بالحذر والقلق، حتى داخل دوائر الحكم فى إسرائيل، فنتنياهو نفسه لا يعرف بالتحديد ماذا يمكن أن يكون عليه الوضع فى اليوم التالى للحرب، رغم إطلاقه العديد من التصريحات الرنانة المخادعة لشعبه، لكنه يعلم أنه فى مجملها لن تتحقق ولن تسمح واشنطن بتحقيقها، على الأقل فيما يتعلق بإعادة الاحتلال العسكرى لقطاع غزة أو اقتطاع جزء منه لإقامة منطقة عازلة، رغم دعمها المطلق لدولة الكيان، سياسياً وعسكرياً وأمنياً واستخدامها حق النقض «الفيتو» وحيدة أمام 14 صوتاً طالبت بوقف إطلاق النار وإنهاء الحرب، فبدت عارية بعد أن خلعت غطاء الإنسانية وحقوق الإنسان عنها وهى التى تتباهى أمام شعبها بتلك القيم طوال الوقت!

بينما تراجع الموقف الفرنسى كثيراً وبدا ذلك فى تصريح رئيس الوزراء «إيمانويل ماكرون» حين قال إن أمام إسرائيل عشر سنوات كى تستطيع القضاء على حركة حماس، عطفاً على تصريحات «أوستين»، وزير الدفاع الأمريكى، التى أثارت الجدل، وأغضبت إسرائيل، عندما صرح بأن إسرائيل قد تكسب تكتيكياً لكنها ستخسر استراتيجياً.

إن الخلافات بين الرئيس بايدن ونتنياهو التى بدأت تطفو على السطح، لم تمنع واشنطن من التصويت فى مجلس الأمن ضد وقف إطلاق النار، فرخصة القتل الأمريكية التى منحتها للاحتلال الإسرائيلى، فتحت مدى جديداً للجرائم التى ترتكبها إسرائيل كل يوم فى قطاع غزة، دون أن تخشى العقاب أو المحاسبة، فالإدارة الأمريكية يبدو أنها تراهن على فترة العشرة أيام الأخيرة من هذا الشهر سواء بتدخل مباشر منها أو إنجاز إسرائيلى قد يستطيع جيش الاحتلال تحقيقه، كى تضع حداً لنهاية الحرب، لا تخرج منها إسرائيل منكسرة ومهزومة.

لكن فى المقابل هناك عالم إنسانى أخلاقى وقيمى، يطلق صرخاته مطالباً بوقف الحرب، كما أنها تأتى تعبيراً عن مستوى التضامن فى مواجهة آلة القتل الإسرائيلية، ورفضاً للإبادة الجماعية والانتهاكات الإسرائيلية ضد الإنسان الفلسطينى، سواء كان طفلاً أو امرأة أو شيخاً عجوزاً، ورغم ذلك فإن المنطق والحق والتاريخ يقول إن الإنسانية هى التى تبقى والقتلة ذاهبون.

إسرائيل تتخبط فى وحل حقيقى، وهناك تغيرات ميدانية تفرضها قواعد الحرب، فقد ارتفع سقف مطالب المقاومة ولن تتنازل عنها، فى الوقت الذى تخطط فيه إسرائيل وأمريكا عن إزاحتها من المشهد والتخلص منها تماماً، لكن إسماعيل هنية حسم الأمر عبر رسالته التى أكد فيها أنه لا حلول بدون وجود حماس والمقاومة، وستبقى المقاومة حارساً أميناً على صمود الفلسطينيين.

كما أكد أن الرهان على إنهاء حركة حماس هو وهم فى عقل إسرائيل ومن يساندها.وفى المقابل نجد أن سكان قطاع غزة الذين يعانون ويُقتلون ويهجّرون ويجوعون، يؤيدون المقاومة ويرفضون المساومة على حقهم فى أرضهم وبلدهم، يفضلون الموت على التهجير الطوعى الذى تعمل إسرائيل على تمريره من خلال الضغط الشديد عليهم، بالقصف المتواصل والقتل وتدمير البيوت على رؤوس أصحابها، فضلاً عن حرب التجويع والتعطيش ومنع دخول المساعدات والأدوية والوقود وغيرها من مقومات الحياة كعقاب جماعى كى تستحيل معه الحياة، لكن إرادة الفلسطينيين وثباتهم وتمسكهم بحقوقهم، أثبتت أنها أقوى من كل المخططات.