حرب الإبادة تعمّق ثبات الفلسطينيين
لا يحتاج الشعب الفلسطينى مِنّة من أحد، ولا ينتظر دعماً أو مؤازرة، فقد أدمن الموت، وأصبح رفيق دربه منذ غدرت به وخانت العهد دولٌ وشعوبٌ، حين توضأوا ورفعوا صلاة الجنازة على دولة اسمها «فلسطين»، ودفنوها فى أعماق سحيقة من الخذلان والتعامى، فضلوا متاع الدنيا وإغراء الحياة المرفهة وتغافلوا عن الحق، بل استبدلوا ثوابت التاريخ بحقائق جديدة أعطتهم الذريعة والحجة لينشروا ويعززوا سموم الدعاية الصهيونية، ويروجوا لها بالتزوير والأكاذيب، وفجأة لم تعد الأرض أرض فلسطين، ولا الشعب بات شعبًا أصيلاً!.
لقد عرّت الحرب الشرسة على قطاع غزة العالم من أقصاه إلى أدناه، بسبب الصمت والتقاعس والتخاذل الدولى، تلك المواقف المذلة وما تحمله من تواطؤ وعجز وتكالب على المكون الفلسطينى التى يندى لها جبين البشرية والإنسانية، تثير الاشمئزاز، ولا أدرى ماذا تنتظر تلك الدول حتى تقول: «كفى، يجب وقف دائم لإطلاق النار فوراً» بلغة الأمر التى لا تقبل الرفض، فعار على المجتمع الدولى ما يراه من إبادة شاملة للفلسطينيين ويغض النظر عنها، بل ينتظر من إسرائيل المزيد حتى تنجز المهمة.
ربما تريد الولايات المتحدة الأمريكية الداعم الرئيسى، والراعى الرسمى لإرهاب إسرائيل، أن ترى نصف سكان قطاع غزة متدثرين بالأكفان، على اعتبار أن الفلسطينيين مجرد أرقام فى كشوف الموتى، بينما ما تمارسه إسرائيل من تطهير عرقى بحق المدنيين فى قطاع غزة، أمر مشكوك فيه ولا يرقى للتحقق من دقته؟!
فلا يزال البيت الأبيض يصرح بأنه من السابق لأوانه إجراء تقديم أدلة شاملة عن المرحلة الثالثة من الحرب؟! فيما أشار المتحدث باسم الخارجية الأمريكية «ماثيو ميلر» إلى أن واشنطن لم تر دليلاً على أن إسرائيل تقتل المدنيين عمداً! فماذا يمكن أن تكون الأدلة التى تقنع أمريكا؟
وهل اعتراف الخبراء العسكريين، بأن ما ألقى على غزة من القنابل والقذائف الصاروخية يقارب خمسين ألف طن من المتفجرات، على مساحة 360 كم2، لا أهمية له؟! وهو ما لم يحدث له مثيلٌ فى أى حرب على مدار التاريخ.
«إن كنت لا تدرى فتلك مصيبة، وإن كنت تدرى وتصمت فالمصيبة أعظم»، وبالتأكيد فإن المجتمع الدولى والإدارة الأمريكية يعلمون علم اليقين حجم الكارثة، وما ترتكبه إسرائيل من مجازر بحق المدنيين العزل، رغم إنكارهم واستنكارهم لذلك، لكنهم لا يحركون ساكناً، إنها جريمة أخلاقية ووصمة عار، يتحمل مسئوليتها الدول الداعمة لإسرائيل بغضهم النظر عن كل ما ترتكبه من جرائم ضد الإنسانية بحق الفلسطينيين.
ستون يوماً، وإسرائيل تقصف بشراسة كل شبر فى قطاع غزة بلا هوادة، ولم تستطع أن تحقق هدفاً واحداً من الأهداف التى أعلنتها فى بداية الحرب، كل ما تستطيع فعله هو القتل، والمزيد من القتل بوحشية غير مسبوقة فى صفوف المدنيين، وبالذات الأطفال والنساء، وتدمير كل شىء بدافع الانتقام، وسحق الأخضر واليابس، لكن الفلسطينيين صابرون، معتصمون بحبل الله، ثابتون، محتسبون، يحمدون الله رغم أنهم يخسرون أرواحهم وعائلاتهم وبيوتهم وأرزاقهم، فداءً للوطن والمسجد الأقصى، تلك ليست شعارات أو كلمات حماسية.
بل ما يتردد على ألسنة الغزاويين فى كل الحروب والمحن التى يتعرضون لها، سواء خسارة أطفالهم أو بيوتهم أو كليهما معاً، لم ييأسوا ولم يتذمروا ولم يلوموا، شعب يثير الانبهار، يضمد جراحه سريعاً، وينهض من حيث وقع، هكذا عاش لسنوات طويلة، وهكذا سيستمر إلى أن يحقق النصر المبين، وينتصر على أسوأ احتلال عرفه تاريخ البشرية.
كى لا ننسى.. ما ترتكبه إسرائيل «فى هولوكوست غزة»، يجب ألا ننسى الوجوه والقصص الإنسانية والمأساوية التى تنسجها حرب الإبادة كل يوم.
الفلسطينيون ليسوا مجرد أرقام تُسجَّل يومياً فى كشوف أعداد الضحايا والجرحى، الفلسطينيون شعب ملهم، حتى بعد أن أباد الاحتلال العديد من العائلات ومسحها من سجلات الحياة، لا بد أن نتذكرهم، لا بد أن يظلوا فى الذاكرة ونستحضرهم فى كل المواقف، فإعادة رواية سرديتنا للعالم وتكرارها، تستطيع أن تُفهم العالم حقيقة هذه السردية.
وتقف حائط صد أمام سردية الاحتلال وأكاذيبه التى ترسخت فى أذهان الغرب الذى لا يريد تغييرها منذ عقود، بالذات فيما يخص حقيقة الصراع الفلسطينى - الإسرائيلى، مشاهد القتل اليومية ربما تتحول مع الوقت إلى عادة لا تلمس القلب، كما كان صداها ووهجها فى الأيام الأولى من الحرب، وإن كنت أشك فى ذلك، غير أن ما يرشح من قصص إنسانية بالأسماء والتفاصيل، والمآسى اليومية التى يعيشها المواطنون فى غزة، لا بد لها أن تذكِّرنا بمعاناتهم، وتبقى صامدة أمام أكاذيب الاحتلال الإسرائيلى، وتغطيته على ما يفعله فى هولوكوست غزة.