«روح الروح» وخزائن الألم

خديجة حمودة

خديجة حمودة

كاتب صحفي

ويتغلب الألم مع الإحساس بالفقد والحزن والدموع على إبداعات جميع أدباء وشعراء العالم العربى الحزين، يتغلب على الدعوات الصادقة والمزيفة للحفاظ على شمل الأمة العربية، والقومية العربية، والأمن القومى العربى، واتفاقيات التعاون المشترك، والدفاع المشترك، ومؤتمرات القمة، وجداول أعمالها وبياناتها الختامية. تتغلب دمعة صادقة جرت على وجنتى الأب المكلوم وهو ينادى صغيرته الشهيدة: (يا روح الروح)، ويحاول أن يرفع جفن عينها ليرى ذلك البريق البديع والنظرة الدافئة والنداء الناعم، ولكن هيهات، فقد ذهبت معالم الجمال مع تلك الروح البريئة التى لم تعرف معنى الحرب ولا الدمار إلا بعد أن اصطحبتها الملائكة إلى رحلتها الأخيرة. وإن كنت أملك قرار لجان تحكيم العالم كله بإعلامه المسموع والمرئى والمقروء لمنحت صاحب هذه اللقطة الجائزة الكبرى لأجمل وأصدق صورة صحفية لعام ٢٠٢٣ الذى طارت فيه كل تلك الملائكة الصغيرة إلى السماء دون ذنب أو خطيئة، ولوضعتها فى طابع بريد لتلف العالم بقاراته الست، وتتداولها الأيدى من جميع الجنسيات، ويحتفظ بها هواة جمع الطوابع فى دفاترهم، وتنتقل ملكيتها من جيل لآخر؛ ليظل العالم كله يتذكر ويرى كيف كان وداع «روح الروح». أما إذا كان لدىّ ورشة عمل سينمائى فلن أتردد فى جمع شباب المؤلفين الموهوبين وأصحاب التجارب الناجحة حول طاولة اجتماعات ليكتب كل واحد منهم صورة ذلك الملاك كما يشعر بوقع الحدث على قلبه وقلمه ولنخرج بعمل سينمائى ينافس أشهر أفلام هوليوود التى حصلت على جوائز الأوسكار فى الحبكة الدرامية والسيناريو وزوايا التصوير والديكور الذى رسمته القذائف الغبية المجنونة ولوّنته بالدماء والرمال والحجارة السوداء. ومما لا شك فيه أن هذه الأحداث الدامية والخسائر البشرية والأحياء التى تحولت لمقابر لسكانها ستمد أدب الحروب بالعديد من الأفكار والأعمال التى ستدخل مكتبة الأدب العربى ومكتبات الأفلام، حيث يقول النقاد السينمائيون إن شدة الألم وصدمات الحروب والصور المؤلمة تفجر الطاقات الفنية والإبداعية، لتبقى تلك الأفلام ورواياتها كخزانة ألم للإنسانية لما تشكله تلك الحروب من تغيرات فى خارطة العالم السياسية والاجتماعية، وأيضاً فى نفوس المحاربين ومواطنين عاديين يفقدون الكثير من مفردات الحياة. وفى مكتبتنا المصرية تألق الكاتب جمال الغيطانى، الذى قيل إنه يمكن اعتباره مؤرخاً عسكرياً، حيث عاش المعارك بين مصر وإسرائيل كصحفى عسكرى وشاهد بعينيه ما فجّر طاقاته، ولعل من أروع ما كتب رواية «الرفاعى»، التى سجلت بطولة رجال المجموعة «٣٩ قتال»، التى قدمت أغلب أعضائها شهداء لمصر، وعلى رأسهم قائدها إبراهيم الرفاعى، الذى تحمل الرواية اسمه، كما يضاف لمكتبتنا الحربية كتاب الفريق الشاذلى وهو يصف لنا أهم أحداث حرب ١٩٧٣، والعديد من الكتب التى يمكن اعتبارها وثائقية لعدد من القادة الذين شاركوا فى الأحداث الحقيقية، فكانت كلماتهم شاهد عيان على ما حدث. وقد قرأنا مؤخراً كتاب الخبير الاستراتيجى اللواء أ.ح سمير فرج (شاهد على حرب أكتوبر ١٩٧٣)، الذى أهداه فى أرق الكلمات إلى مصر وإلى القوات المسلحة المصرية وشهداء أكتوبر، ووصف ذكرى تلك اللحظة التى انطلقت فيها الحرب بأنه أدرك أن عقارب الساعة قد بدأت فى الدوران ولن تعود أبداً إلى الوراء. فهل سنجد من يكتب عن حرب ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ كما كتب «تولستوى» قصة الحرب والسلام عن الاجتياح الفرنسى بقيادة نابليون بونابرت للأراضى الروسية فى مطلع القرن التاسع عشر؟ أو من سيخرج فيلماً سينمائياً ينافس فيلم (دروب المجد) الذى أخرجه ستانلى كوبريك عام ١٩٥٧، الذى يعتبر أحد أهم الأفلام المناهضة للحرب بقصته المؤثرة التى تحكى رفض عدد من الضباط الفرنسيين مواصلة هجوم انتحارى على ثكنة ألمانية فى الحرب العالمية الأولى، والفيلم مأخوذ عن رواية بنفس الاسم للأديب همفرى كوب، الذى كتب أجمل جملة عن ما يحدث فى تلك الحروب وموت المقاتلين أمام أعين زملائهم، فقال إنها (عبثية البندقية). ومن علامات سينما الحروب أيضاً فيلم (كل شىء هادئ على الجبهة الغربية) ويتحدث عن حياة جندى ألمانى (باول بومر) الذى يجرى تجنيده فى الجيش الألمانى مع أصدقائه ليجد نفسه أمام حقائق مروعة جرت فى الحرب العالمية الأولى. ومن مكتبة أدب الحروب أيضاً رواية «سارقة الكتب» لماركوس زوتاك، التى تناقش فترة الحرب العالمية الثانية، وقد بيع منها ١٦ مليون نسخة وتمت ترجمتها مؤخراً للغة العربية. والآن وبعد أن عشنا أياماً مزعجة ومؤلمة يبدو أن علينا الانتظار لنقرأ ونشاهد ما سيخرج من خزائن الألم عن هذه الحرب التى أثبتت أن قذائفها عبثية مائة فى المائة وأنها أفقدت الآلاف مفردات الحياة بالكامل.