الإعلام.. والسلام

رفعت رشاد

رفعت رشاد

كاتب صحفي

صمدت غزة ما يقرب من شهرين أمام قوات الاحتلال الإسرائيلى المدججة بأحدث الأسلحة والمدعومة من الجيش الأمريكى. هذا الصمود حقق النصر لغزة. كنت راهنت على أن قدرة المقاومة الفلسطينية ومواطنى غزة على الصمود ستكون نقطة فاصلة فى هذه الحرب غير المتكافئة بين طرفين أحدهما يملك كل الأسلحة وآخر لا يملك إلا أسلحة خفيفة، أحدهما يحتل الوطن والآخر يناضل لتحرير الوطن، أحدهما يحتمى بدول العالم الغربى الاستعمارية العاتية، وآخر يحتمى بأهله الذين قتلتهم آلة الحرب الإسرائيلية.

حاربت إسرائيل بجيش عرمرم مسلح بأحدث ما فى مخازن حلف الأطلنطى وأمريكا، غيّرت أمريكا مسار سفنها التى تنقل السلاح إلى أوكرانيا لتتجه إلى إسرائيل، لكنها لم ولا تنسى أبداً أهم أسلحتها وهو الإعلام. كان الإعلام حاضراً فى الحرب على غزة. جنَّدت الآلة الإعلامية الصهيونية وسائل الإعلام الغربية التى صارت تمارس إعلاماً كاذباً يزيف الحقائق ويتبع ما يُملى عليه من قيادات السياسة فى بلاده وما تمليه عليه إسرائيل. بمجرد أن بدأت عملية طوفان الأقصى تلقت وسائل الإعلام فى الغرب أخبار العملية الفلسطينية بانفعال طغى على قواعد الموضوعية للتغطية. تبنت الرواية الإسرائيلية وتصريحات نيتنياهو ووزير دفاعه الذى يجب محاكمته بعدما قال: إننا نواجه حيوانات بشرية، قال ذلك متعمداً نزع الإنسانية عن الفلسطينيين تمهيداً لإبادتهم جماعياً. كان النازيون يصفون اليهود بأنهم «جرذان» قبل إشعال المحرقة، كما وصفت إحدى القبائل الأفريقية خصومها من القبيلة الأخرى بأنهم «صراصير» ودارت بينهم المذابح الجماعية التى قطعت رؤوس الملايين. كانت تصريحات قادة الصهيونية تهدف إلى تجريد الفلسطينيين من كونهم بشراً كاملى الإنسانية فيسهل قتلهم بضمير مرتاح. وكانت التصريحات تعكس نظرة العنصرية للعرب والفلسطينيين على الأخص ممتلئين بالشعور بالتفوق وكراهية العرب والإسلام وتحويل هذه الكراهية إلى الرأى العام الغربى من خلال إعلام لا يقول الحقيقة.

منذ البداية اتخذ الإعلام الغربى منحى اتهام المقاومة بأنها إرهابية قامت بعمل إرهابى، وتم تصوير الفدائيين من خلال كلمات وعبارات ذات مغزى لدى المواطن فى تلك الدول، ووصفوا «طوفان الأقصى» بأنها «هولوكوست» جديدة قاصدين إحياء الذاكرة الغربية تجاه ما فعله النازى باليهود، كما ركزوا خلال زيارة بايدن على التذكير والربط بالتشبيه بين الفلسطينيين وبين بن لادن وما حدث لبرجى التجارة فى نيويورك، ما يدعو المواطنين الأمريكيين لتبنى المساندة والتأييد المطلق لإسرائيل باعتبار أنها تواجه نفس العدو. وبعض الصحف والقنوات وصفت الفلسطينيين بأنهم «داعش» جديدة، موحية بأن من المحتم اتخاذ الإجراء المتشدد ضدهم كما حدث مع داعش.

لم يذكر الإعلام الغربى سبب عملية طوفان الأقصى، ولماذا قام بها الفلسطينيون، لم يذكر أن غزة فى حصار منذ 56 عاماً وأنها تشبه سجناً مفتوحاً هو الأكبر فى العالم. ألح الإعلام على الرأى العام ساعياً إلى تحقيق موافقة جماعية على ما تقوم به بلاده من مساندة لإسرائيل، وموافقة مطلقة على ما تقوم به إسرائيل باعتبارها دولة متحضرة تدافع عن قيم الحضارة الغربية. امتنعت وسائل الإعلام الغربية عن متابعة ونشر أى أخبار من غزة أو من وجهة نظر فلسطينية. تلقت أخبارها من إسرائيل، ونشرت ما قدمته لها الصحافة المدمجة فى الجيش الإسرائيلى، حيث يُسمح لصحفيين مختارين بالالتحاق بالجيش يقومون فقط بنقل وجهة نظر الطرف الذى سمح لهم بذلك. استمرت وجهة نظر إسرائيل فى الحرب سائدة فى الإعلام الغربى، لكن استطاع الإعلام العربى، وفى مقدمته الإعلام المصرى، تغيير الصورة السلبية عن المقاومة الفلسطينية والحرب العادلة التى تخوضها ليعدل ميزان الإعلام ويكتسب الأنصار فى كل مكان. ركز الإعلام المصرى، وخاصة قنوات الشركة المتحدة، على استقطاب وتوعية القوة الناعمة والرأى العام مباشرة، فشاهدنا المظاهرات تخرج فى الشوارع استجابة لرسائل نقلها الإعلام المصرى، خاصة قنوات «المتحدة» التى نقلت صور المشاهد البشعة التى تسبب فيها التدمير الإسرائيلى، وكذلك حالة القطاع بدون مياه أو طاقة أو غذاء. انتشر تأييد غزة فى ملاعب كرة القدم فى دول عديدة ورُفعت الأعلام الفلسطينية ومطالب الحرية لفلسطين. بدأ الرأى العام الغربى وبعض وسائل الإعلام تنتبه لما يجرى فى غزة، خاصة بعد ثبوت كذب إسرائيل وبايدن بشأن قصف المقاومة مستشفى المعمدانى وقطع رؤوس الأطفال الإسرائيليين.

تملك إسرائيل من آليات الدعاية والإعلام ما يجعلها مؤثرة بقوة، لكن الإعلام المصرى آمن بأنه مهما بلغت قوة الوسائل الإسرائيلية فإن النجاح فى توصيل الرسالة الإعلامية وتحقيق التأثير إنما يكون بتقديم الحقائق الموضوعية باحترافية. وقد تبنى إعلامنا الحقائق ونشر رأى مصر بشأنها.

لقد تجاوزنا مرحلة الهزيمة الإعلامية التى عانينا منها من قبل خلال حرب 1967 والتى كان أداء الإعلام المصرى فيها سلبياً، سواء على المستوى الداخلى أو المستوى الخارجى. إن اتباع منهج إعلامى موضوعى يبث القوة والتأثير فى الرسائل المستهدف وصولها إلى الرأى العام داخلياً وخارجياً. والملاحظ أن هناك حالة رضا عام عن الأداء الإعلامى فى حرب غزة التى كانت محكاً لقوانا الناعمة بجانب السياسة الخارجية والدبلوماسية التى قادها الرئيس عبدالفتاح السيسى باقتدار. إن الحرب هى ممارسة للسياسة بوسائل عنيفة لإجبار الأطراف على التفاوض بشأن السلام، وقد حان الوقت لكى يدرك الصهاينة أنهم لا يمكن لهم العيش فى فلسطين للأبد بينما تحيط بهم الكراهية من كل ناحية. اعتقدوا أنهم أنهوا القضية ولن تقوم قائمة لفلسطين أو لغزة وأن الطريق ممهد للتطبيع مع كل الدول العربية وتحقيق حلم إسرائيل الكبرى، لكن ما حدث فى الطوفان ينسف أحلامهم ويؤكد حيوية القضية والشعب الفلسطينى وأن الوقت حان للسلام الحقيقى لا الزائف المتربص بحقوق الآخر.