حرب غزة.. وحروب العرب البينية
لا يلتفت كثيرون إلى أن وسائل الإعلام «التقليدية» العربية باتت -على عكس ما حدث على مدى عقود طويلة خلت- أقل انخراطاً فى الحروب الدعائية العربية البينية، وأقل قابلية للتسخير فى إثارة العداء وتأجيجه بين النظم السياسية والمواطنين العرب.
وعندما نقارن أنماط أداء تلك الوسائل، فيما يتعلق بالعلاقات البينية العربية، فى عقود سابقة، وبين ما تفعله الآن، يمكن أن نشعر بكثير من الارتياح؛ لأنها أضحت أقل مساهمة فى صناعة الفتنة والخلاف.
وفى منتصف القرن الماضى، على سبيل المثال، كانت وسائل إعلام عربية رئيسية تسخّر جزءاً كبيراً من أحبارها وأثيرها لخوض معارك بينية، يتهم خلالها طرف عربى ما طرفاً أو أطرافاً أخرى بـ«العمالة» أو «الخيانة» أو «الرجعية» أو «الشيوعية» أو «التهور والجعجعة».
وقد استمر هذا النمط من الأداء فعالاً ورائجاً بمواكبة الأحداث التاريخية الكبرى التى مرت بالمنطقة، وبلغت ذرى شديدة الارتفاع، خصوصاً فى أوقات الحروب والتحولات المفصلية.
وفى السبعينات والثمانينات الفائتة، كنا مع موعد لحلقة جديدة من حلقات الصراع والتلاسن الإعلامى، الذى خُصصت له أقنية وصحف عديدة، وأُنشئت مؤسسات صحافة وتلفزة بموارد كبيرة فقط لإدامته وتأجيجه.
وقبل ست سنوات، اندلعت معركة كبيرة، عبر تلك الوسائل التقليدية، على خلفية الصراع بين تيارين رئيسيين فى الجسم السياسى العربى، وهو الأمر الذى استمر لعدد من السنوات، قبل أن تظهر إرادة واضحة لتخطيه.
واليوم، لا يبدو أن المشكلات بين الدول العربية تم حسمها أو تجاوزها، لكن على الأقل، فإن ثمة اتفاقاً تظهر مفاعيله فى عدم تسخير الوسط الإعلامى المؤسسى لتغذيته، ولم تعد تلك الوسائل المؤسسية تُستخدم مباشرة فى شن الهجمات الدعائية بتركيز ووضوح مماثلين لما كان يحدث فى السابق.
لا يمكن القول إن الجسم السياسى العربى تجاوز خلافاته الرئيسية أو الثانوية بطبيعة الحال، لكن يمكن القول إن تلك الخلافات لا تظهر بالوضوح ذاته فى المؤسسات الإعلامية التى تعبر عن الأطراف العربية، ولا تجتهد تلك المؤسسات فى إدامته، ولا تُستخدم كوسائل ردع أو هجوم مباشرين.
لكن ما يمكن رصده بقليل من الجهد فى هذا الصدد يتمثل فى أن وسائل «التواصل الاجتماعى» أخذت ذلك الدور، وباتت تتفنن فى تأديته، عبر ديناميات أكثر ضراوة وإلحاحاً.
وفى مواكبة حرب غزة الراهنة، تجرى معركة أخرى على وسائط «التواصل الاجتماعى» بين مواطنين عرب مُفترضين، تستخدم فيها أحط أنواع الشتائم، وأكثر عبارات الكراهية تبجحاً ونكاية، وهى معركة لا يبدو أن القضية الفلسطينية ستحقق منها أى عائد، ولا يبدو أن فيها منتصراً.
لقد تواترت تقارير ونتائج دراسات كثيرة تشير إلى وجود تدبير وإسناد لهذه المعركة، التى تندلع تحت معانٍ وطنية وقومية ودينية، وتستهدف دولة ما ومواطنيها بالهجوم، باعتبار تلك الدولة «خائنة» أو «عميلة»، وباعتبار قادتها «مفرطين» أو «متآمرين»، وباعتبار مواطنيها «خانعين» و«فاقدى الشرف».
ينخرط بعض مستخدمى وسائل «التواصل الاجتماعى»، من الذين يقدمون أنفسهم بوصفهم عرباً، فى ملاسنات لا تنتهى على تلك الوسائل، ويشنون معارك بانتظام، ويكيلون لمواطنين عرب آخرين شتائم نابية، ويسندون هجومهم، بما يدّعون أنه وثائق مكتوبة أو مصورة، لدعم تصورات يريدون لها الشيوع.
بعض التقارير تفيد بأن وحدة استخباراتية إسرائيلية معينة تقف وراء هذه المعارك الكلامية الحادة، بهدف حرف الأنظار عن معركة غزة، وتعميق الخلافات العربية البينية، والإضرار بالمصالح الوطنية والقومية العربية، أو الضغط على بعض الدول التى تؤدى أدواراً فى مقاربة الصراع، بما يحد من قدرتها على الفعل.
وثمة تقارير أخرى تشير إلى وجود كتائب إلكترونية ممولة من بعض القوى العربية من أجل إحداث هذا الشقاق، وتأجيج الكراهية البينية، أو للدفاع ودرء الهجوم.
ووفق أفضل المعلومات المتوافرة، فإنه لا يبدو أن ثمة أدلة دامغة على وجود هذا التدبير، أو قدرة على تحميل المسئولية لجانب معين برعاية هذه المعارك بغرض إدامتها وتأجيجها لتحقيق أهداف سياسية، لكن اعتبار أنها تندلع وتزدهر تلقائياً سيكون أمراً صعباً أيضاً.
يبدو أن ثمة إرادة واضحة لدى أطراف معينة للاستثمار فى هذه المعارك التى تندلع على الوسائط الجديدة الرائجة من أجل تعميق الكراهية والخلاف بين الشعوب العربية، ويبدو أيضاً أن ديناميات التفاعل عبر تلك الوسائط تغذى هذه الإرادة، وتمنحها أسباباً للنجاح فى مقاصدها المؤذية والضارة.
قد لا تفلح المواعظ التى يمكن أن توجه للمنخرطين فى هذه المعارك العبثية فى الحد منها، أو إقناع «زبائنها» بضرورة الكف عن تقديم تلك الخدمات لأصحاب الغرض، الذين لم نجد الأدلة الكافية على وجودهم بعد، لكن الاستسلام لتلك الحالة يمكن أن يقوض الكثير من المعانى والقيم والمصالح التى تجمع أبناء الدول العربية.
لا يمكن أن تكون نصرة القضية الفلسطينية، أو مساندة مواطنى غزة الذين يتعرضون للقصف الإسرائيلى الهمجى كل يوم سبباً للتشاتم بين أبناء الدول العربية، أو معايرة بعضهم البعض، أو ادعاء أن شعباً بكامله من الخائنين وشعباً آخر لا يضم سوى النبلاء والمناضلين.
يجب أن تكون هناك وقفة ضرورية مع حالة العداء، التى تظهر فى تلك الوسائط، بين أبناء الدول العربية، والتى لا يمكن أن تحظى بأسباب موضوعية يمكن تفهمها.
الفتنة بين أبناء الدول العربية على وسائل «التواصل الاجتماعى» مُصطنعة، وتحظى بتدبير وموارد، والاستسلام لها، وتأجيجها، سيؤدى إلى عواقب وخيمة.