تحليل شخصية «هرتزل».. الضائع الذي أسس إسرائيل!
يُفهم الشىء بفهم صانعه.
«هرتزل» هو الصانع، وإسرائيل هى الصنيعة، كلاهما يشبه الآخر، الأول خرج من بيئة مأزومة تحيطه التناقضات وتسكنه، ضائع يبحث عن أحلام ضائعة، يحاول الهرب من شتاته الداخلى إلى ما يثبت به جدارته.. والثانية هى كيان المتناقضات كلها، دولة نشأت على أزمة، وأُسست على مأساة، وتعيش بأجهزة تنفس صناعية على أرض غير أرضها، داخل حضّانة أمريكية لولاها تموت فوراً.
هذه هى قصة هرتزل.. وهى -إلى حد قريب جداً- قصة إسرائيل نفسها.
داخل شارع قديم بالحى اليهودى فى مدينة بودابست بالمجر، يولد الطفل الصغير عام 1860 لأبوين يهوديين ينطقان اللغة الألمانية. لم تكن الأسرة دينية، ولم تكن فقيرة كحال كثيرين من يهود أوروبا فى ذلك الوقت. كانت يهودية علمانية، الأب يعقوب رجل أعمال، والأم تنتمى لأسرة ميسورة، وكل أفراد العائلة من اليهود المندمجين فى المجتمع الأوروبى، لا تعانى شيئاً كما يعانى آخرون، لكن الابن الصغير -على عكس عائلته- عانى من مشكلات نفسية كبرى نتيجة سلسلة من الأحلام الشخصية الضائعة سوف يتحمل نتائجها شعب كامل ومنطقة كاملة من العالم فى وقت لاحق!
الطفل تيودور هرتزل كان مفتوناً فى أول حياته بشخصية يعرفها كل المصريين، هو الفرنسى فرديناند دى ليسبس، الذى قضى جزءاً كبيراً من حياته فى مصر. كان يريد أن يسير على دربه ويدرس العلوم والجغرافيا، لكنه فشل.
طوى «هرتزل» صفحة «دى ليسبس»، وفتح صفحة جديدة أراد فيها أن يكون أديباً وروائياً ناجحاً على غرار أدباء وكتاب ألمانيا الكبار الذين قرأ لهم وتعلق بهم، مثل: جوتة، أدولف شتيرن، وكارل ماى، إضافة إلى الروائى العالمى شكسبير. لكن موهبة هرتزل المحدودة لم تسعفه فى تحقيق ذلك الحلم، بالكاد تحول إلى محرر أدبى فى صحيفة نمساوية.
الطريق الثالث الذى شقه هرتزل لم ينجح فيه أيضاً، لم يصبح صحفياً بارزاً ولا كاتباً ذا أى وزن فى أوروبا أو فى النمسا أو حتى داخل الشارع الذى يسكنه. بعد سنوات من عمله بالصحافة قرر أن يدرس القانون ويحصل على رخصة مزاولة مهنة المحاماة.
من العلوم، إلى الأدب، إلى الصحافة، إلى المحاماة.. فى كل مرة كان هرتزل على موعد مع إخفاق جديد.
الإخفاقات المهنية تصنع شخصية عدوانية، محملة بالأمراض، راغبة فى صنع أى نجاح أو تأثير بأى وسيلة، حتى لو كانت الوسيلة هى تفجير عبوة ناسفة فى وجه العالم!
بعد دراسته للقانون، انضم هرتزل للجمعية الأخوية القومية الألمانية، التى كان لها شعارها «الشرف، الحرية، الوطن». هنا تعرض لصدمة أخرى عندما وجد الألمان -الذين كان مفتوناً بهم فى وقت سابق- يحملون الكراهية لليهود. نموذج الألمانى المثقف الأديب الذى كان يتطلع إليه هرتزل اصطدم مع الواقع الذى لمسه بين زملائه الألمان، واضطر معه إلى الاستقالة.
لكن ليس الإخفاق المهنى وحده هو ما انتظر هرتزل. داخل الأسرة، وبين العائلة، كان هناك إخفاق آخر، تكتمل معه ملامح الشخصية الضائعة التى سوف تصنع بعد ذلك كل هذا الكيان المحتل الضائع!
كان هرتزل هو الابن الثانى بعد شقيقته بولين، فى سن الثامنة عشرة من عمره ماتت بولين، وقررت الأسرة بعدها السفر من المجر إلى النمسا. فى فيينا قرر أن يتزوج من امرأة يهودية غنية، لكن الزواج لم يسِر على ما يرام. كان البيت بلا عاطفة، بلا استقرار.
قرر هرتزل أن يسافر سفره الثالث من فيينا إلى باريس، ليس بحثاً عن وظيفة، بقدر ما كان هروباً من البيت.
هرب من بيته وزوجته، دون أن يعبأ بطفله الصغير، ولا طفله الثانى الذى لم يره بعد، لأن الأم كانت لا تزال تحمله فى بطنها!
هرب من حياة مفككة بحثاً عن حياة جديدة على أرضٍ ليست أرضه.. تماماً سوف تكون هذه هى نفس الفكرة التى سيبنى عليها مخطط إسرائيل بعد ذلك!
فى سن السادسة والثلاثين، وبعد كل هذا الركام الكبير من الفشل، شرع هرتزل «الضائع» فى كتابة جريمته التى سمّاها «الدولة اليهودية»!
كتاب الدولة اليهودية هو موضوع المقال القادم.