من أعلام التنوير.. طه حسين نادى بمجانية التعليم وخاض حروبا من أجلها

من أعلام التنوير.. طه حسين نادى بمجانية التعليم وخاض حروبا من أجلها
- عصر التنوير
- الفكر الشامل
- عميد الأدب العربى
- طه حسين
- عصر التنوير
- الفكر الشامل
- عميد الأدب العربى
- طه حسين
قبل نصف قرن من اليوم، رحل عن عالمنا أديب ومفكر يعد علماً من أعلام التنوير والحركة الأدبية الحديثة، امتلك بصيرة نافذة وإن حُرم البصر، وقاد مشروعاً فكرياً شاملاً، استحق به لقب «عميد الأدب العربى»، وتحمل فى سبيله أشكالاً من النقد والمصادرة، فضلاً عن الاتهامات والإقصاء، لكنه ظل شامخاً نبيلاً مدافعاً عن الحق فى التعليم حتى النفس الأخير، ولم لا وهو صاحب المقولة الخالدة «التعليم كالماء والهواء».
ظُلم رائد التنوير المصرى كثيراً، بالوقوف فقط عن مناداته بمجانية التعليم، ولم يُنسب إليه ما فعله من أفضال ستظل شاهدة على شموخ منقطع النظير، إذ كان صاحب أول رسالة دكتوراه فى الجامعة المصرية، ومؤسس الأقسام المختلفة بكلية الآداب، فضلاً عن إدخاله العديد من اللغات الأخرى إلى الكلية، حيث كانت تقتصر على الإنجليزية والفرنسية فقط، بالإضافة إلى مساهمته فى تأسيس جامعة الإسكندرية، وكان صاحب أول فكرة لإنشاء هيئة للآثار المصرية، وغير ذلك الكثير.. تدرك «الوطن» قيمة ما قدمه طه حسين لمصر وطناً ومواطناً، فضلاً عن الإنسانية، حتى رحيله عن عمر ناهز 83 عاماً، واليوم بعد نصف قرن على وفاته، نحاول أن نعيد إليه جزءاً قليلاً من حقوقه علينا.
«السروي»: مفكر نهضوي وأهم القامات الثقافية في عصرنا الحديث
الدكتور صلاح السروى، أستاذ اللغة والأدب العربى الحديث بكلية الآداب جامعة حلوان، قال إن طه حسين يعد قامة من أهم القامات الثقافية والفكرية المصرية والعربية فى عصرنا الحديث، إذ تقاس هذه الأهمية بمدى تأثيره الذى تميز باتساع نطاقه البالغ، بحيث طال مختلف جوانب الحياة فى مصر والمنطقة العربية، فلم يقتصر هذا التأثير على الجانب الأدبى وحده «وهو مجال تخصصه الأكاديمى»، بل طال الجوانب الإبداعية والفكرية والثقافية، بصفة عامة، وكذلك الجانب التربوى، والسياسى، وإن كان الجانب الأخير قد جاء بدرجة أقل، «كتابه عن الديمقراطية»، فهو كاتب روائى وباحث أدبى ومؤرخ، ومفكر إسلامى، ومنظر سياسى، وتربوى.
وأضاف «السروى» لـ«الوطن»: «ضرب فى كل هذه الاتجاهات منطلقاً من قيم الحداثة المتمثلة فى العدل والحرية والاستنارة العقلانية والمنهج العلمى، ما جعل منه واحداً من المنورين العظام، الذين حاولوا وضع مصر على خريطة العصر الذى نعيشه، سواء أكان ذلك من الناحية القيمية (الأخلاقية)، أو من ناحية نمط التفكير والممارسة الأكاديمية البحثية والسياسية، على حد سواء».
وتابع: «أظن أن نظرته التربوية فى كتابه (مستقبل الثقافة فى مصر) تعد الأهم من بين ما طرحه فى كتبه العديدة، لأنه يوضح فيها -بجلاء- رؤيته للعلاقة بين الثقافة الوطنية وبالتالى الهوية الوطنية، وباقى الثقافات والهويات الأخرى، خاصة أنه جرى اتهامه بالدعوة إلى التغريب والتأثر بالمستشرقين، ومهاجمته بشراسة وقسوة وصلت إلى حد تكفيره، فضلاً عن محاولات فصله من الجامعة فى أجواء العاصفة التى أحدثها صدور كتابه (فى الشعر الجاهلى)، والهجوم الحاد العنيف عليه أثناء فترة توليه مسئولية وزارة المعارف العمومية (وزارة التربية والتعليم الآن)، من المتشددين وذوى الرؤية المتطيرة من كل ما يمثل نزوعاً نحو التجديد أو الحداثة، أو الالتحاق بركب الزمن الذى نحياه».
ولفت «السروى» إلى أن عميد الأدب العربى طرح برنامجاً تربوياً بالغ الطموح والغنى، يقوم على مجانية التعليم حتى المرحلة الثانوية، ونشر المدارس التى تقوم برامجها على هضم التاريخ الوطنى والعربى والدولى، والاطلاع على المحطات الرئيسية والإسهامات الجوهرية للثقافة العربية، والعالمية، أدباً، وفكراً، ولغة، موضحاً أثره فى الجانب اللغوى، كما فى الجوانب الأخرى، وكان لطه حسين موقف بالغ الانحياز للغة العربية والثقافة الوطنية، فهو القائل بضرورة ألا يتعلم الطالب أى لغة أخرى غير اللغة العربية فى مراحل تكوينه العلمى الأولى، ويقصد بها مرحلة التعليم الإلزامى، حتى لا تزاحم تلك اللغة الأجنبية اللغة الأم، ولا تؤثر على سليقة المتعلم فى هذه المرحلة الغضة من عمره، ثم بعد ذلك فى المرحلة الثانوية، يلزم أن يتعلم لغتين أجنبيتين على الأقل، على أن تكونا متنوعتين بين مختلف لغات العالم، وليستا مقتصرتين على اللغتين الإنجليزية أو الفرنسية أو ما قاربهما من لغات أوروبية.
ونوه أستاذ اللغة والأدب العربى بأنه أخذ يعدد اللغات الإنسانية التى يمكن للناشئة تعلمها، فأورد اللغات الروسية والصينية والهندية إلى جانب الإسبانية والإيطالية.. إلخ، وذلك حتى لا تستبد لغة واحدة أو لغتان بثقافتهما ومخزونهما الحضارى بألباب الجيل، فيؤثران على انتمائه الثقافى - الحضارى، موضحاً أن هكذا كان يرى طه حسين ضرورة تكريس الولاء الثقافى - الحضارى للوطن أولاً، لكن دون انغلاق ولا تعصب ولا عدوان على قيمة الثقافات الأخرى ومنجزاتها الحضارية، بل بانفتاح ندى، خلاق ومبدع.
«الضبع»: حياته كانت معركة ممتدة في سبيل الوعي.. وأسهم في إنشاء جامعة الإسكندرية
الدكتور محمود الضبع، أستاذ النقد الأدبى الحديث بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة قناة السويس، أكد أنه إذا كانت هناك كلمة تلخص الاحتياج العربى الراهن فهى الوعى، وإذا كان هناك مثقف عربى معاصر أخلص للوعى فهو طه حسين، بل يمكن تلخيص مسيرة حياته بوصفها معركة كبرى ممتدة فى سبيل الوعى، وأضاف فى تصريحات لـ«الوطن»، أن المتأمل الجاد فى مشروعه الثقافى سيجد أن الطريق الذى كان يراه الوسيلة الوحيدة لذلك هو التعليم، ففى بداية حياته خاض حربه الأولى ضد مناهج التعليم التقليدية آنذاك فى الأزهر، ثم تظهر هذه المعركة بقوة فى كتاب «الأدب الجاهلى» عام 1927، الذى يرى البعض أنه كان تراجعاً عن أفكاره فى كتاب «الشعر الجاهلى» عام 1926، والواقع أن من يقرأ الكتابين جيداً سيجد أن مقدمة الأدب الجاهلى على طولها، لم تكن سوى انتقاد لمناهج التعليم السائدة آنذاك باعتباره المسلك الوحيد للوعى.
وبيّن أن القلة التى قرأت «مستقبل الثقافة فى مصر» عام 1938، يعرفون أن الكتاب لم يكن فى الثقافة كما تضمن عنوانه، وإنما هو فى التعليم بامتياز، وبخاصة أن مصر كانت وقتها قد نالت استقلالها، وكان طه حسين يرى أن تحديد المسار أهم متطلبات الوعى آنذاك، وهو أن يعرف المصريون موقعهم من هذا العالم، وإلى أى الحضارات ينتمون؟ وأكد «الضبع» أن طه حسين أسهم فى إنشاء جامعة الإسكندرية، وعمل مديراً لها فى مطلع الأربعينات، وكان هناك جدل واسع بشأنها فى مصر وبرلمانها، وعندما تولى وزارة المعارف عام 1950 انشغل بقضية الوعى، فأخلص لبناء المدارس فى أرجاء مصر، ودعا إلى مجانية التعليم، وسيظل التاريخ يحفظ له مقولته الشهيرة «التعليم كالماء والهواء حق لكل مواطن».
«ثابت»: تحرير العقل كان همه الأكبر وإصراره على استقلال الجامعة لم يكن حدثا عابرا
ويرى الكاتب الدكتور ياسر ثابت أن طه حسين خلاصة عصر كامل من الكتابة والتفكير والإبداع وتحدى السائد المألوف، حيث جاءت رسالته لتحرير العقل المصرى عن طريق التعليم، لكى يسعى نحو تحرره السياسى ويحافظ عليه، وكان يؤمن إيماناً راسخاً بمدنية الدولة وقيم الحرية والديمقراطية والعدل الاجتماعى، وهو ما كان يدعو إليه وينادى به فى محاضراته وأدبه القصصى والروائى.
وأوضح «ثابت» فى تصريحات لـ«الوطن»، أن طه حسين كان مؤمناً بمصريته، إذ يقول: «وإذا ذهبت مذهب المتحدثين فى السياسة المصرية فأنا مصرى قبل كل شىء وبعد كل شىء، ولا أعدل بمصر بلداً، ولا أوثر على الشعب المصرى شعباً آخر مهما يكن»، ويقول أيضاً: «وإنما أنا أعيش فى مصر، وأشارك المصريين فى الحياة التى يحيونها، وآخذ بحظى مما فى هذه الحياة مما يرضى ومما يسخط»، وفى موضع آخر يقول: «الشخصية المصرية تقوم على مشخصات واضحة بيّنة تعصمها من الفناء فى الأمم الأخرى».
وأضاف أن إصرار «العميد» على خوض معركة مجانية التعليم واستقلال الجامعة لم يكن حدثاً عابراً فى مسيرة مصر الحضارية والإنسانية، بل كان تعبيراً عن ثورة ثقافية ورؤى إصلاحية وتنويرية شاملة تستحق الاحتفاء والتقدير، لافتاً إلى أنه مثّل منذ البداية ظاهرة ثقافية ثورية، كان كتابه «فى الشعر الجاهلى» الذى صدر فى أبريل من عام 1926، هو حَجره الأول الذى ألقاه فى بحيرة ثقافتنا الراكدة.